مسقط الرأس … مسقط الروح


خيري منصور *


لا يوازي تلك المرآة ذات القضبان التي رسمها ناجي العلي بحيث اصبح كل من ينظر اليها سجينا في زنزانة، الا الألف كتاب بصفحاتها البيضاء التي تخترقها رصاصات من مسدس عيار 22 ملم والتي عبّرت من خلالها الفنانة اميلي الجاسر عن اغتيال الشهيد وائل زعيتر في روما، حين اخترقت جسده ثلاث عشرة رصاصة، واحدة منها اخترقت كتاب الف ليلة وليلة الذي كان يحمله في جيب سترته ويحلم بترجمته.
وقبل اكثر من ثلاثة عقود التقيت الفنانة جانيت فن براون وهي صديقة وائل زعيتر في منزلي، وقبل ان نتحدث عن وائل، طلبت مني شيئين اولهما ان اترجم لها عناوين اول عشرة كتب في مكتبتي من اليمين الى اليسار، والثاني ان تشاركنا زوجتي وانا في اعداد عشاء فلسطيني، وحين ترجمت لها عناوين الكتب العشرة بالترتيب قالت بانفعال : هذا ما توقعت، ان اربعة منها توجد على احد رفوف مكتبة وائل، وطلبت مني ان تزور مثقفين فلسطينيين آخرين لتكرر التجربة ذاتها وذلك لأمر يخصها , وبعد اكثر من ثلاثة عقود مرّت على لقائي بالفنانة جانيت فن براون وجدت نفسي قبل اسابيع قليلة أتحدث عن وائل زعيتر في عمان مع الفنانة الايطالية روبيرتا جيوفانيني وهي زوجة الصديق د . مفيد ، وكان اللقاء بترتيب كريم من الصديق د. سمير القريوتي الكاتب والاعلامي المعروف الذي يعيش في ايطاليا، وحين تصفحت الكتاب الذي أعدّته الفنانة بالصور عن مشاهد فلسطينية دمعت عيناي على الفور، وكان خامسنا في المقهى هو فيتوريو اريغوني الصحفي الايطالي الذي اختار قدرا ومصيرا فلسطينيا واغتيل في الأرض التي جاء ليضمّد جراحها، كم من الاعتذار يكفي لتلك السيدة الايطالية وللفنانة جانيت فن براون صديقة وائل ايضا ولكل الفلسطينيين من ايطاليا وسائر بقاع هذا الكوكب ؟
المشاهد التي قدّمتها الفنانة روبرتا عن فلسطين بانوراما شملت الطفل والشيخ والمرأة والشجر وحتى ما يرشح من تلك الجغرافيا الرسولية الحزينة التي يعبق في فضائها دم اخضر .
* * * * * * *
حين أعلن نبأ استشهاد وائل في روما كان الرّد شعريا بامتياز، فكتب سعدي يوسف مرثية هي الأندر بين مراثي هذا الزمان وكان سؤاله لوائل مريرا وهو : لماذا متّ ؟ وكتب رافائيل البرتي عن وائل قصيدة مفعمة بالتجريم والشجن، خاطب فيه عمق التراجيديا الفلسطينية بطريقة آسرة، اما فدوى طوقان فقد اعلنت للمرة الثانية عن خجل ذاتي … كانت المرة الاولى في قصيدتها الى محمود درويش بعد عام 1967 والمرة الثانية في اعتذارها لوائل عن غربته واستحقاقنا لاستشهاده . ويروي الموسيقار برونو كالي عن وائل انه سأله بعد حرب 1967 كيف يمكن للغرب الذي انتج عملا ابداعيا خالدا كالسيمفونية التاسعة لبيتهوفن ان ينحاز الى الاحتلال والقتلة، ولا يتسع المقام لذكر ما قاله البرتو مورافيا وجان جينيه ورودنسون وآخرون من ابرز اعلام اوروبا عن الشهيد المثقف الذي قدم من خلال ذاته دفاعا هو الأنبل والأرقى عن استحقاق شعبه للحياة والحرية !



* * * * **


ان من اطلق النار على الف ليلة وليلة، كان ينوب بالاصبع فقط عن نزعة من الشر المحض تستهدف المنجز البشري، ومن سوء حظ القاتل ان وائل زعيتر عبّر رمزيا عن هذا النزوع الشرير حين حمل في ذلك الصباح الخريفي كتاب الف ليلة وليلة، فالكتب ايضا تستشهد كما هو الحال بالنسبة لاشجار السنديان والزيتون والصفصاف التي تخترق جذوعها البنادق رغم ان اعقابها مصنوعة منها ومن جثثها .
ماذا اسمي الفتى الذي ترك وراءه ابا مريضا وجاء الى فلسطين كي يُقتل غدرا فيها ؟ هل هو ايطالي من غزة، ام فلسطيني من ايطاليا ؟ الدم وحده هو الذي يحذف الفارق، ويعيد الانسان الى جذره الآدمي مُحررا من جواز السفر وكل ما له صلة باللغة والاحوال المدنية، لهذا لم تعد راشيل كوري امريكية بعد ان عجنت لحمها الجرافة الاسرائيلية ومزجت دمها بجذوع الشجر بحيث قد يغدو زيتا في موسم قادم، انهم يولدون بأسماء وجنسيات عديدة لكنهم يموتون بشرا قبل كل شيء وفلسطينيين بعد كل شيء، فالانسان قد لا يختار قدره الجغرافي لكنه بالتأكيد قادر على اجتراح قدره التاريخي وليس اختياره فقط، والفنانة القادمة من بلد على الشاطىء الغربي من البحر المتوسط والتي ساهمت معنا في اعداد عشاء فلسطيني حذفت بحركة واحدة من اصابعها وهي ترش الزعتر على الزيت اي فارق بينها وبين اختي او عمتي او خالتي، انها لحظة يتجلى فيها الانساني الخالد والعابر للغات والألوان والأسماء فاختلاف منابع الانهار يوحدها المصب، كما ان القيامة هي ما يوحّد التقاويم كلها .


* * * * * * *


ان مسقط الرأس وحده لا يكفي قدر تعلق الامر بالانتماء والموقف، فثمة جواسيس لم يكن مسقط رؤوسهم في المريخ او واق الواق ولدينا في تاريخنا العربي المعاصر نماذج فذة من هؤلاء الذين حولوا مساقط الرؤوس الى مصاعد ارواح وخيارات لا تمتثل للجَغْرَفة، فالكواكبي ولد في حلب لكنه كتب وكافح الاستبداد حتى الموت في مصر، وسليمان الحلبي الذي قتل الجنرال كليبر، وجول جمال لم يرتهنا لمسقط الرأس بالمعنى الضيّق، وهذا ما فعله ايضا القسّام في فلسطين وفرانز فانون في الجزائر وجيفارا في العالم كله، وهناك في هذا الوجود فرصة لولادة ثانية، سواء كانت بالمعنى الابداعي او بالمعنى النضالي الواسع، فالاستبداد لا هوية له وكذلك الفقر، خصوصا في عصر تولى فيه سدنة التوحش المؤدلج عولمة كل شيء .
والايطالي الذي اختار مسقط جسده كله وليس رأسه فقط في فلسطين رأى في الاطروحة المضادة للعولمة كمرادف للقطعنة والوعي السالب جواز سفر آخر، بل هوية أخرى، لهذا فهو نموذج لعناق وجودي وأبدي بين مسقط رأس جغرافي ومسقط روح تاريخي، وهذا بالضبط ما فعلته راشيل كوري وغيرها ممن اعلنوا العصيان على ثقافة تسليع البشر وتحويلهم الى مجرد اشياء، وحين تخلت فنانة مثل جين فوندا عن الموقف الذي جسّدته سينمائيا في فيلم ‘انهم يقتلون الجياد’، كسبت الكثير من اسرائيل والدوائر الصهيونية لكنها خسرت نفسها الى الأبد، بعكس مارلون براندو الذي رفض الاوسكار دفاعا عن الشرف القليل الباقي كما قال .



* * * * * * * *



كان رهان الرأسمالية في ذروة توحشها وشحذ انيابها على انسان صغير او ترانزستور كما سماه النفساني ولهالم رايش ودفع الثمن، لكن هؤلاء الذين تمردوا على تعاليم السوق والبراغماتية الفاحشة قدموا النموذج المضاد للإنسان الصغير، وهو الانسان فقط، بلا أية اضافات، فالمفاهيم ومنظومة القيم تعرضت لخلخلة واضطراب وتأويلات سلبية منذ بدأت تتعدد النعوت والاوصاف التي تعلق بها، ويبدو ان بقاء الانسان على قيد آدميته وحفاظه على سلامة بوصلته الاخلاقية قد اصبح عسيرا في زمن القطعنة والخرتتة بالمعنى الذي اراده يوجين يونسكو في مسرحية الخراتيت، ولا ادري لماذا لم يخطر ببال من شاهدوا فيلم تايتانك وهم مئات الملايين ان ركابها رغم التفاوت الطبقي غرقوا معا في المحيط ذاته، وأزال الفوارق بينهم الاسماك والكائنات المائية التي التهمتهم .
وكوكبنا الان برمته هو تايتانيك كبرى لم ترتطم بجبل جليد بل بجبل الاستبداد المؤدلج والمدجج نوويا، فتحية لقبطان اعتذر للغرقى بأن دخل غرفة القيادة واغلق بابها ولفرقة الموسيقى التي واصلت العزف حتى الموت .
هذا الوعي المفارق للسائد والمقرر الذي تبثه الميديا الداجنة على مدار اللحظة جسّده اناس من طراز هؤلاء الذين دافعوا عن حق التراجيديا في البقاء على قيد التاريخ امام قوى كونية بلغت اقصى الذرائعية، وغاب عنها ان هناك منتصرا يمضي نحو هزيمته كما قال شلومو رايخ مقابل مهزوم يصعد نحو انتصاره كما قال ابناء السلالة الخالدة من انصار الضحية الذين حولوا جذوع الزيتون والصفصاف المذبوحة الى قيثارات !


( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *