” إيقاع الكعب العالي ” للشاعرة أسماء الحاج: خسارات الروح


قراءة : محمد العامري *

أسماء الحاج في مجموعتها «إيقاع الكعب العالي»، شاعرة تهجم عليها في نصوصها كما لو أنها تسترجع أنوثتها المتوهجة في ارتكاب الحياة


إنه استدراج لما فات من بهجات وخسائر، وارتكاب لفعل التعبير عن ذات كامنة تفجرت في لحظة انعتاق من ماض ليس بتليد:
«حين أسافر
لا أحد يودّعني
يحزم لي الأشواق
يطمئن إلى زوادة الطريق
ليس مَن يسألني: متى أعود؟».
تغترف الحاج من بئر حزنها أحاسيسَ بكْراً نبشت فيها حتى انسكاب الدم في فنجان قهوتها، كمن يحك الفسيفساء حتى الجص.. هكذا هي الكتابة من قشعريرة تسري في وجدان المخيال وانتصارات متتالية لصدقية القول في التعبير عن تاريخ إنساني مرت عليه خسائره الخاصة.
«لم تكن بعارفة لكل ما تريد
اكتفت بقليل من الحنطة في رغيف الخبز لتقول:
وجبتي أقل بكثير من حبر طازج،
من غيمة ساخنة على مائدة السماء».
تكتب الحاج في مجموعتها الثانية بعد «أشد وجعاً من الماء» شيئاً يشبه المغامرة باتجاه القفز من أعالي جبال كانت تخبئ حلمها فيها، مغامرة اغتراف الحياة مرة واحدة حتى لو كان الدليل أعمى وبلا عكاكيز، روح مجرورة نحو اكتشاف مجهولات البعيد المتلذذ بنأيه:
«كيف يصحبك الكفيف بنزهة
دون الخوف من نهاية الطريق؟».
عتبة النص أو «المنصة» التي يطل النص منها، هي الدالّ الأكبر على مجريات الروح المتمردة في جميع القصائد، ولا يجوز عدّ العنوان هامشاً في هذه الحالة، كونه تحول إلى متن متين. فعنوان مثل «إيقاع الكعب العالي» يحيل مباشرة إلى أهميته عبر ما يدل عليه. الإنذار بقدوم إيقاع لا يشبه إلا نفسه.. لم يكن إيقاع «هارب» صوته خشن، أو إيقاع «ناي» يتسلل بين جبال بعيدة.. إنه إيقاع يشبه «فلامنجو» يمتلك عنف اللذة وتداعياتها في انسكاب الذات في محبرة الكتابة.
العنوان هنا نص كامل تتقطر منه القصائد، وهنا تبرز وظيفة استاطيقية بامتياز لشعرنة العنوان بوصفه العتبة الأهم في الدخول إلى بيت القصائد ونوافذها، والتجوال في الحدائق الخلفية ممثلةً برائحة الألم الصاعد من العبارات.
إن عتبات النص المتمثلة بالعناوين تؤشر الى ما يمكن التقاطه في مناخ النص نفسه، وخير من تكلم عن ذلك الفرنسي «جيرار جينيت» الذي كرّس كتاباته لسبر أعماق النص من خلال مبتديات النص أو «المُتعاليات النصية» التي قسّمها إلى خمسة أنماط: معمارية النص، والمُناصَّة (العَنْوَنَة)، والتناصّ، والميتانص، والتعلق النصي. وهذه الأنماطُ تتداخل في ما بينها وتتقاطع، وتُمارَس بطرائقَ عدةٍ.
«مرت ثلاثون قاحلات
يضرم صداها مشاعلَ الجسد البالي
يقاوم رغبة الفناء
كلما فتحت النافذة على الوجع المغروس في خاصرة الغياب
أراني أتأرجح على ذراع شجرة عند مدخل بيتي العتيق
أحدثها عن الأحزان بفصاحة الألم».
هذا المقطع من قصيدة «الأرجوحة» تذهب به الشاعرة إلى استرداد ما كان فرحاً في منطقة الطفولة، تسترده من باب محاولات مثابرة لمقاومة الألم والغياب، الألم الذي اشتبكت معه في لاحق الحياة فتعود إلى ماضٍ بريء تعوض فيه عن نزف سلبي جديد (الألم، الغياب، الفناء).
ومن باب التأويل، يلحظ القارئ طبيعة الحركة المتمثلة بالأرجوحة التي لا تنتهي من ذهابها وإيابها لتعود إلى النقطة نفسها كما لو أنها «سيزيفية الحركة»، فلا جدوى من التحرر من مجال الأرجوحة، أرجوحة الذاكرة التي تذهب وتعود بكل مصنفاتها النفسية والمكانية على حد سواء.
تصوّر الحاج في معظم قصائدها، صوراً من الممكن أن ترسمها لتصبح ممسوكة بالبصر.. إنها مشاهد وصفية أقرب إلى فعل السينما المقطعية عبر أسلوبٍ في التعبير ينتظم في الذات البعيدة، حيث من الممكن الإمساك بالجوهر في الظاهر والباطن من لغتها، سواء كانت مكثفة أو مسترسلة.
لم تذهب الحاج إلى ما فعله «مايرهلود» في فهمه للاستعارات البصرية في المسرح أو ما يسمى «البيوميكانيكية»، بل ذهبت إلى استعارة ذاتها المتألمة لتصبح الفعل الرئيس في التعبير عن تلك الحالة في الشعر، دون أن تنسى دور الوصف في تعميق الحالة، كالوقوف أمام المرآة ووضع المكياج في محاولة لتفقد ملامحها التي تعرفها؟
ثمة مقطع يؤثث هذه الفكرة:
«أمام المرآة تنتصب قامتها
ترى ما لا يراه الرفاق
تسدل ستائر الشعر المهمل
تتمتم بالنبرة المعهودة
تخرج ذاك الظل من عتمته».
كل الأشياء التي تستعيرها الشاعرة لوصف الحالة وتثويرها، هي مجاورات عاشت معها، كالكرسي والمرآة والزهرية والوردة والطريق والأحذية.. كذلك فعلَ «فان كوخ» في جعل الأشياء الجامدة تأخذ صفة التاريخ الجديد والاستقلالية لتصبح ذات تاريخ أكثر عمقا وإنسانية.
وتواصل الحاج في قصيدة أخرى، انتصارها إلى القصيدة كما لو أنها مولود تعويضي عن خسارات فاتت:
«لو كان بيدي
لمسحتُ عن الجسد الأخضر بقية الزنبق
ونزعت من الوقت كل عقاربه
وبمعول الريح حرثت ظهر الصمت وبذرت بقايا القلب
ليكبر قصيدة..».
إنها كمن يعود بعد هروب إلى مسقط ظله الأول، كي يستظل ببقايا حب بريء تمظهر في لحظة الخسارة.
كتابة الشاعرة الحاج عن الحسارة يمتزج فيها المكان والذات، كما لو أن بيتها القديم هو منطقة الحب، وما عداه محض خسائر متتالية، لذا تستعين بما علق من ذاكرة طفولية لترمم عبر تذكّرها تلك الخسائر


 


* شاعر وتشكيلي من الأردن


( الرأي الثقافي )

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *