براءة المسلمين: “في إعادة ترتيب العلاقة بالنص والسيرة”


منصف الوهايبي *

تقافات :


 


شاهدت مثل كثير أو قليل،الفيديو “براءة المسلمين” سيّئ الذكر.على أنّ مؤهّلاتي السينمائيّة محدودة، ولا تخوّل لي الإفاضة في لغة هذا الفيديو “السينمائيّة”؛وقد تعمّدت أن أضع هذا النعت بين مزدوجتين،فليس في حركة الكاميرا ولا في تنويع اللقطات أو تركيب الصور،وما هو متعارَف من حيل السينما وخدعها، ما ينمّ عن خيال أو موهبة. بل إنّ المُشاهد، وبخاصّة العارف بعظمة نبيّ الإسلام،وسيرته،يدرك دون عَنَتٍ يذكر، أنّه إزاء “مخرج” كليل الشعور لم يُرزق حظا من خيال،حتى في ما يُسمّى سننا سينمائيّة غير خالصة مثل هذه “النصوص” و”المرويّات” غير المسندة التي يزعم بعضهم أنّه استخرجها من القرآن وكتب السيرة النبويّة. ويعرف المسلمون أنّ الإسناد من الدين.وأنا أقتصر منها على هذا “الحوار” الذي يدور بين النبي العربي الكريم وحمار له اسمه “يعفور” أو هكذا يُقال إنّ النبيّ سمّاه[وَيَعْفُورهُوَ اِسْمُ وَلَد الظَّبْي كَأَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسُرْعَتِهِ .] فقد وردتْ هذه الحكاية في غير مصنّف من مصنّفات القدامى، ولكنّ أكثرهم أوأشدّهم نباهة انكرها.من ذلك ما رُوي عن الصحابي أبي منظور


.قال” : لما فتح اللهُ على نبيهِ صلى اللهُ عليه وسلم خيبرَ؛ أصابهُ من سهمهِ أربعةُ أزواج نعال ، وأربعةُ أزاوج خفاف ، وعشرُ أواقي ذهبٍ وفضةٍ ، وحمارٌ أسودٌ قال : فكلم النبي صلى اللهُ عليه وسلم الحمارَ ، فقال له : ما اسمُك ؟ قال : يزيدُ بنُ شهابٍ ، أخرج اللهُ من نسلِ جدي ستينَ حماراً، كلهم لم يركبهم إلا نبي؛ولم يبق من نسلِ جدي غيري، ولا من الأنبياءِ غيرُك، أتوقعك أن تركبني .وكنتُ قبلك لرجلٍ من اليهودِ، وكنتُ أعثرُ به عمداً؛ وكان يجيعُ بطني ويضربُ ظهري . فقال له النبي صلى اللهُ عليه وسلم : قد سميتك يعفورًا. يا يعفورُ قال : لبيك .قال: أتشتهي الإناث ؟ قال:لا[ في الفيديو استبدل المدبلج “النسوان” ب”الإناث” وصاغ الحوار بلهجة مصريّة ركيكة،في إشارة إساءة لا تخفى].وكان النبي عليه الصلاة والسلام يركبه في حاجته، فإذا نزل عنه بعث به إلى بابِ الرجلِ ؛ فيأتي البابَ فيقرعُهُ برأسهِ. فإذا خرج إليه صاحبُ الدارِ؛ أومأ إليه أن أجب رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم .قال : فلما قبض النبي عليه الصلاة والسلام ؛ جاء إلى بئرٍ كانت لأبي الهيثمِ بنِ التيهان ؛ فتردّى فيها فصارت قبرهُ ؛ جزعاً منه على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم.”وما إلى ذلك ممّا نُسب أيضا إلى الإمام علي” في “الكافي: باب الحجّة”.قال: إن ذلك الحمار كلّم رسول الله فقال : بأبي أنت وأمي،إنّ أبي حدثني عن أبيه عن جده عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال : يخرج من صُلب هذا الحمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم قال عفير : فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار.”و هذا وغيره ممّا أنكره ابنُ الجوزي وشنّع على واضعه.قال :”هذا حديثٌ موضوعٌ فلعن اللهُ واضعهُ ، فإنه لم يقصد إلا القدحَ في الإسلامِ ،والاستهزاءَ به.”



وغير ابن الجوزي من الذين وقفوا على ضعف هذا الحديث والمقصد من وضعه، وإن لم يشرْ أيّ منهم إلى مقصد آخر خفيّ يمكن أن ننفذ إليه من خلال أحاديث أخرى يجري فيها الحديث بين النبي وبعض الحيوانات مثل الجمل والذئب.وإذا كان لبعض قصص الحيوان هذه، سند في المصنفات الإسلاميّة القديمة، فإنّ بعضها الآخر من المتهافت الذي لا نقف عليه عند أيّ من الكتاب المسلمين؛ مثل قصّة الحمامة التي راجت عند طوائف من الأوروبيين المسيحيين في القرون الوسطى، ومفادها أنّ النبي كان قد روّض حمامة بحيث تقع على كتفه، وتهمس له أو توشوش له وكأنها تتحدّث إليه. ويزعم واضعو هذه الحكاية أنّ النبي كان يضع لها الحَبّ أو فتات الطعام في أذنه،فيظهر للمشاهد أنّها تكلّمه أو توحي إليه فيما هي تلقط ما وضعه خفية. فلعلّ المقصود من هذه الحكايات العجيبة إضفاء صورة الملك أو النبي سليمان الذي جاء في سورة النمل أنّه عُلّم منطق الطير،على النبي،برغم أنّ النبي لم يدّع معجزة كهذه؛وقد أغناه عنها النصّ القرآني الذي صرف الناس عن محاكاته،لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها



***



الحقّ أنّ ما دعاني إلى استحضار بعض هذه الحكايات التي لا ترقى إلى مستوى الأحاديث النبويّة المتفق عليها ، ليس هذا “الفيديو” المتهافت فحسب، وإنّما ناحية أخرى قلّما التفتنا إليها. وأقصد هذه “المرويّات” التي تستدعي إعادة ترتيب علاقتنا ـ نحن المسلمين ـ بالنصّ القرآني وكتب الأحاديث ومصنّفات السيرة.أليس ممّا يباين النصّ القرآني، وسيرة النبي قبل الدعوة، أن نقرأ في بعض مصنفاتنا القديمة، ما ينقله البعض عن أبي معشر المدني [من الرّواة وأصحاب السّير والمغازي.ت.170هـ ] في”كتاب المبعث” من ” أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذبح ذبيحة للأصنام، فأخذ شيئا منها، فطبخ له. وحمله زيد بن حارثة، ومضيا ليأكلاه في بعض الشّعاب. فلقيهما زيد بن عمرو بن نفيل، وكان من المتـألّهيـن في الجاهليّة [أي من الحنفاء التّوحيديّين، فقد اعتزل الأوثان وما يقدّم إليها. كما نهى عن وأد البنات]، فدعاه النّبي ليأكل من الطّعام، فسأله عنه فقال[النّبي]: هو من شيء ذبحناه لآلهتنا. فقال زيد بن عمرو:إنّي لا آكل من شيء ذبح للأصنام،وإنّي على دين إبراهيم. فأمر النّبي زيد بن حارثة بإلقاء ما معه” وما إلى ذلك من أحاديث أخرى مثل هذا تستوقفنا حتى في الصحيحين وفي “أصنام” ابن الكلبي وغير ذلك من مصنفات المسلمين القدامى، وهي أكثر من أن نلمّ بها في مقال كهذا ـ ممّا يحتاج إليه الباحث، لإعادة ترتيب العلاقة سواء بالسنّة والسّيرة النّبويّة أو بالنصّ القرآني نفسه. والمسوّغ لذلك أمور عدّة نجملها في ناحيتين:أُولاهما أنّ السيرة ثمرة نصوص وخطابات شتى قد تكون محكومة بنوايا كاتبيها ومقاصدهم ممّا يراكم خطابا فوق خطاب، وإيقاعا على إيقاع. ومثال ذلك هذه الإشارات الى سيرة النبيّ قبل الدّعوة أو المعجم التّجاري المطّرد في القرآن (الخرج ـ الأجرـ القرض ـ الكيل ـ الميزان ـ الرّهان…).فهذا ممّا يصعب فهمه خارج سير التّفاعل بين شخصيّة النبيّ قبل الدعوة وبعدها.وهويقتضي تهذيب ما ينبغي تهذيبه من هذه المرويات على ضوء النص القرآني. وثانيتهما مردّها إلى ما كان ينادي به بعض الباحثين، في النّصف الأوّل من القرن الماضي، من ضرورة إعادة ترتيب العلاقة بالمصحف. فقد كتب زكي مبارك عام1935 في تقريظ “القرآن المفهرس”، وتحديدا “تفصيل آيات القرآن الحكيم” وهو العنوان الذي تخيّره محمّد فؤاد عبد الباقي ترجمة لكتاب جول لابوم Le Coran analysé يقول:”وصدور هذا الكتاب أنقذني من ورطة كنت معرّضا لعواقبها المضجرة. فقد فكّرت منذ أعوام في الدّعوة إلى ترتيب المصحف ترتيبا جديدا يساير موضوعات القرآن.



وكنت أخشى الاصطدام بالرّأي العام الذي لا يقبل تغييرا للتّرتيب الذي جرت عليه المصاحف منذ عهد عثمان. وكانت حجّتي أنّ المصحف رتّب بعد وفاة الرّسول. فليس من المحتوم أن يبقى على ترتيب واحد طول الزمان. أمّا الآن فقد استغنيت عن هذا المشروع بفضل هذا الكتاب. فالمصحف للتّلاوة، وهذا للبحث.” فما أحوجنا حتى نتحاشى هذه “الفخاخ” المنصوبة لنا ول”ثوراتنا” ولديمقراطيّتنا المتعثّرة، مثل هذا الفيديو السخيف أو هذه الرسوم الكاريكاتوريّة البائسة، أن نعود إلى تراثنا وعليه في ذات الآن على نحو ما كان يفعل المستنيرون من أسلافنا،فنجمع بين طريقة المؤرّخ وأسلوب النّاقد بحيث لا ننكر على البيئة نصيبها(ما قبل الإسلام وبعده) ولا نبخس النبي الكريم حقّه علينا في أن نغضب له ونثور، ولكن دون مساس بصورة هذا الوطن الذي هو حظنا ونصيبنا.


 


* شاعر وأكاديمي من تونس

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *