“المسيحية المشرقية” مكسر عصا الغرب الصليبي والشرق الإسلامي


“مظلة “العهدة العمرية” ازاء أهل الكتاب حمت عيشهم وبقاء جماعتهم على معتقداتها وتراثها، لكن فعل الحدث التاريخي المتمثل بالفتح، قلص رقعة المسيحية، فيما اخذ المسار يهيىء لانفكاك تدريجي عن جسد الكنائس الشاهدة والمحرومة نعمة البشارة والامتياز”.

درس نسيم ضاهر في كتابه “المسيحية المشرقية” بايجاز وضع المسيحيين “بين حلف الاقليات واشكاليات معلقة على خشبة التاريخ”، كما جاء في عنوان الكتاب، رابطا المراحل التاريخية بما يسمى “الربيع العربي”، داعياً الى التفاؤل بكلام طوباوي “ليتهم (المسيحيون) يقنعون ان الربيع جاد على مشرقهم بمستطاع ايجابي واعد ملؤة التحولات ويغادرون ارض الشك والخشية من نار تحت الرماد. فهم المتفائلون ابداً حسب الوصايا، مدعوون الى تجديد ايمانهم بالحق في زمن افول الايديولوجيات”. وهم يقولون ايضا: يا ليت التجارب التاريخية لم تكونا، وما زالت؟ بين اتباع الرسالات السماوية الثلاث ينفرد المسيحيون باعتبار مساحة جغرافية عريضة منزل القداسة، من اورشليم القدس بمحيطها الناصرة وبيت لحم – الولادة والنشوء والصلب – وجوارها الجليل ونهر الاردن وبحيرة طبريا – الغسل والعماد والتبشير – الى انطاكيا عروس البشارة وأهلها من اوائل الوثنيين المهتدين، فمصر ارض القديس انطونيوس الكبير، فبلاد ما بين النهرين والجبلين، القفقاس وآرارات، ارض الكنائس المشرقية – اشورية، كلدانية، سريانية، ارمنية – هذه الاراضي التأسيسية للمسيحية اجتذبت بعد الف سنة الحروب الصليبية بتبرير ديني ولمصالح سياسية، فكان اسفين مسيحي بعد اسافين الاتابكة والمماليك والتتر والمغول، ولاحقاً العثمانيين لكن المسيحيين المشرقيين يؤلمهم ان يتغاضى شركاؤهم المسلمون في هذا الشرق عن حقيقة يفقهونها، وهي انهم اصيلون في هذه الارض وسابقون وليسوا جاليات افرنجية او اعجمية ولا من بقايا الصليبيين، هم اصل المسيحية قبل المسلمين والصليبيين، وهم ساميون: آراميون، او سريان، او عرب. “فما كانوا يوماً جاليات وما نظروا الى انفسهم على هذا النحو المهين”.
اول من نزلت بهم النكبة في مقدساتهم هم المسيحيون قبل المسلمين، اذ فقدوا انطاكية عام 1938 عندما سلخ لواء الاسكندرون عن سوريا ومنح لتركيا، وخسروا القدس مع المسلمين عام 1948 عندما احتلت اسرائيل القدس الغربية، والحقت بها الشرقية عام 1967، وها هم يخسرون كنائسهم – بمعنى رعاياهم – في العراق، فما هو الوضع في سوريا … ولبنان؟!
وينتقد بشدة الاصوليات التكفيرية كالاشعرية والتيمية والوهابية التي لا تكفر المسيحي فحسب، بل المسلم الذي يخالفها اجتهاداتها وتأويلاتها وان اشتركا في النصية. ان الظلامية التي هدمت تماثيل بابيان البوذية تخيف المشرقيين، فلا ضمان جازم يشل يدّ المعتدي المشحون بالفتاوى “لأن رحابة صدر الاكثرية ونياتها الاخوية غير كافيين لدرء مخاطر التزمت والحؤول دون امر واقع يفرضه امعان ذوي الغايات باساليب ملتوية”. بقي المسيحيون، وهم اكثرية، في مناطقهم المشرقية تحت حكم ابناء عمومتهم من العرب المسلمين في ظل الخلافات الاسلامية العربية، لكن الحال لم تستمر بعدما اخذت الخلافة تنوء تحت حكم الاعاجم، من اتابكة ومماليك وترك الذين تسلقوا السلطة بقوة السيف فصار اضطهادهم سمة مقرونة بالاستعلاء والغربة.
وجاء الحكم العثماني يمارس براغماتية يستفيد من مهارة المسيحيين مقابل حمايتهم، ويرى ابقاء المسيحيين على مسيحيتهم التي كانت تدر الجزية المفروضة عليهم نسبة 40% من ايرادات السلطنة. فلماذا خسران هذا المورد الكبير؟. لكن فرض االجزية “جعل المسيحيين في مرتبة ادنى من نظرائهم”. وقد ارتدت مفردة الذميّ “معنى جارحاً لدى المسيحيين”.
ان الهجرة هي طليعة الاسباب في الخلل الديموغرافي بين المسيحيين والمسلمين في المشرق، فمنذ مجازر 1860 الهجرة المسيحية من المشرق مستمرة، خصوصا من سوريا ولبنان، وتلك هيّأت لهجرة كبرى استنزفت جماعات المسيحيين. وفي العامين 1915 – 1916 اقتلع معظم الارمن والسريان من تركيا، بما يوصف بالتطهير العرقي والابادة، ثم اكمل اتاتورك التهجير من كيليكيا والاناضول.
حكم العسكريتاريا في الانظمة العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان دافعا اضافيا الى الهجرة المسيحية، اما الى بلاد العمل في الخليج، من حيث يعودون، او الى المهاجر، فاحتشد الاشوريون في شيكاغو والارمن في كاليفورنيا والفلسطينيون في الاميركتين واوستراليا والسوريون واللبنانيون في كل بقاع الارض.
الهجرات المسيحية جعلت الانتشار في العالم “لوحة مسيحية مشرقية خارج المكان، لم تعد الارض حاضنتها ولم تعد القدس محجاً تصل اليه الاقدام”.
استبق الخميني بن لادن، ففتح عهداً من “العمل السياسي بلبوس مذهبي صرف”، اذا نحيّنا الوهابية السابقة عليه بنصف قرن، والتي عند انتصارها في الجزيرة العربية اجتاحت العراق والمقامات الشيعية فيه. ان الاصوليات الحديثة هي امتداد لاخرى قديمة مارست الممارسات عينها لكنها اليوم مدعومة بالفضائيات، التي يطالعك فيها من يدلي بفتاوى تكفيرية، اين منها السلفيات السابقة! وهي مرفقة باعمال عنف وتفجير، جعلت مشرقيي العراق يخسرون نصف عددهم بالاقتلاع خلال سنوات معدودة. على رغم صورة الاستعلاء الاسلامي الذي يستنسخ عصراً بعد عصر، فان صورة متفائلة يراها المؤلف في المشرق، فيقول: “احتل العنصر المكاني اهمية بالغة في التكوين الذهني لمسلمي المشرق وهم يجاورون سائر أهل الكتاب ويختلطون بهم على مدى الفية وبضعة قرون، وهذا ما لم توفره ارض الجزيرة المحظورة على دين هؤلاء بعد الاسلام”.

 

– النهار

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *