معرض قيس السندي في ” رؤى “: شهادة فنية عن معاناة الهجرة والمنفى



هاني الحوراني*

ثقافات: 

ربما يشكل معرض الفنان العراقي قيس السندي، المقام حالياً في صالة رؤى 32 للفنون، “دراسة حالة” عن معاناته الشخصية، وهو يخوض تجربة “المنفى” أو الإغتراب الإضطراري عن الوطن، لكن أهمية المعرض، في واقع الأمر، تتعدى نطاق التجربة الذاتية، إذ هي تطرح مشكلة إنسانية معاصرة إزدادت حدتها في العقدين الأخيرين، إذا ما أخذنا بالإعتبار الطابع العالمي الذي اكتسبته الهجرة القسرية، والتي تتسبب بها الحروب الأهلية والنزاعات العرقية والأزمات الإقتصادية، فضلاً عن الاحتلالات الخارجية والثورات والإضطرابات الداخلية التي يعج بها العالم الثالث، ولا سيما منه بلدان العالم العربي والشرق الأوسط عموماً.

وبكلمات أخرى، فإنه يمكن قراءة أعمال الفنان العراقي، المقيم حالياً في الولايات المتحدة، بإعتبارها شهادة فنية عن تجربة ذاتية محددة، لكن يصعب فصل هذه الشهادة عن ظاهرة إنسانية وعالمية، باتت تتصدر وسائل الإعلام يومياً، ألا وهي ظاهرة اللجوء، أو الهجرة خارج الأوطان الأصلية، والتي تنطوي على مخاطر هائلة لا تنفك وسائل الإعلام العالمية عن تسليط الضوء عليها بين الحين والآخر، كما تشغل إهتمام منظمات الاغاثة الدولية والاقليمية.

تعددت طرائق إنشغال الفنان قيس السندي بموضوع المنفى واللجوء والهجرة القسرية، عن طريق إستخدام ثلاث وسائل تعبير فنية، أولها معرض كامل يضم 35 عملاً منفذاً على القماش بألوان الإكرليك ومواد متنوعة أخرى، والتي إتخذت قياسات عدة، تتراوح ما بين الحجم الكبير والمتوسط والصغير، وثانيها مادة فيلمية على شكل شريط ينتمي إلى “الفيديو آرت”، وثالثها عملين تجهيزيين، يندرجان في سياق الفن المفاهيمي.

تقدم لوحات قيس السندي مقاطع متنوعة من رؤية وذاكرة الفنان عن حياته في العراق والمهجر، فهي تتضمن صوراً ومشاهد عن حالات إنسانية، تموضعت في أماكن وربما أزمان مختلفة، مزج فيها ما بين الواقعية التعبيرية والتخيل، فلا تتضح الحدود بينهما، لأنهما، في واقع الأمر، أمراً واحداً، إذ كيف يمكن فصل الواقع المعاش عن ذكريات أو تاريخ صاحبه؟!

لا يتناول السندي موضوعات المنفى، أو المعاناة خلال الهجرة، بألوان قاتمة أو كابية، وإنما على النقيض من المتوقع، فإنه يضفي عليها حرارة وتوهج لوني، يحيلنا إلى ألوان الطبيعة الصارخة في بيئة العراق والمشرق عامة. إنها ألوان صيفية قوية وصريحة. ولعل أسماء لوحات قيس السندي تشف عن طبيعتها اللونية الصريحة: “شمس الصيف”، “الخريف الذهبي”، “الحلم الوردي”، … إلخ.

ومن ناحية أخرى فإن تكوينات الأعمال، رغم دراميتها وحالة القلق التي تعكسها، لا تخلوا من التوازن البنيوي، حيث يقوم بتوزيع المساحات اللونية من حول مركز اللوحة، ما يحيلها إلى “حقول” متعددة الألوان والأبعاد.

أما في عمله الفيديوي فقد تناول السندي موضوع الهجرة والمنفى عن طريق تقسيم الشاشة إلى مقطعين متوازيين ومتساويين؛ ففي يمين الشاشة تتتالى صور مكبرة لقطيع من الغنم يمشي دونما هدف، وفي شمال الشاشة، نرى مشاهد مأخوذة من إحدى المطارات، تركز على حركة أقدام المسافرين، وهم يعبرون بحقائبهم من أمام عدسة الكاميرا بتواتر رتيب. وهكذا يعرض الشريط، في الوقت ذاته، وبالتوازي، المشاهد المتتابعة لحركة قطيع الغنم ولحركة المسافرين التي لا تنتهي. وكأنه يقول بأن العالم يحول المهاجرين واللاجئين إلى ما يشبه القطعان التي لا تتوقف عن الحركة بحثاً عن مصادر بقائها.

في عمليه التجهيزيين، يتناول السندي، في أولهما، أزمة المياه المحتدمة في العالم (لا سيما في العالم العربي) من خلال رص صفوف الزجاجات الملونة، المتراصة بنسق هندسي صارم، وعلى مبعدة منها تقف عبوة ماء بلاستيكية واحدة وفارغة. فهل يقصد قيس السندي أنه في مقابل شحة المياه التي يعاني منها مئات ملايين من البشر فإن العالم لا زال ينتج ما لا حصر له من أنواع المشروبات التي لا تتاح إلا للقلة المميزة فقط؟!

أما العمل التجهيزي الثاني فهو يعود ليتناول موضوع السفر والهجرة من خلال وضع حقيبتين متفاوتتي الحجم على منصة، وهما في حالة إنتظار، كما لو أن السندي يقول: أن العالم ليس آمناً بالنسبة لاؤلئك الذين غادروا أوطانهم مضطرين، فهم دائماً في حالة انتظار، كما هو حال شنطهم الجاهزة للرحيل.

يذكر أن الفنان قيس السندي هو من مواليد عام 1967، وقد تخرج من كلية الفنون الجميلة في بغداد (2000)، وكان قد درس قبل ذلك الهندسة في جامعة بغداد عام (1989) قبل أن يحصل على درجة الماجستير في الفنون الجميلة عام 2004. وله نحو عشرة معارض شخصية لأعماله، أقيم معظمها في الولايات المتحدة، إضافة إلى دبي وعمان، كما شارك في بينالي القاهرة الدولي للفنون مؤخراً، وله مشاركة أخرى في العديد من المعارض الجماعية.

هذا، وقد تم تمديد معرضه في صالة رؤى 32 للفنون (عمان، الأردن) حتى السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2012.

 
* هاني الحوراني، باحث ورسام ومصور فوتوغرافي من الأردن.

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *