الرواية السوداء

الرواية السوداء

حاتم الصكر *

الرواية السوداء هي الاسم ـ أو الوصف الآخر بالأحرى ـ للرواية البوليسية وتنويعاتها الممكنة، كرواية المخبر السري، وأدب الجريمة، والتحليل النفسي للمجرم، وحلّ اللغز، وأدب السجون، وغيرها من الكيفيات المتوافرة والمتحصلة، أو المتفرعة عن تلك الكتابة المتداولة منذ قرنين في أوروبا وأميركا.

وكنتُ قد تناولتُ في استطرادات سابقة هذا العام ما عُرف بالرواية الجنائية احتكاماً إلى عرض قدمه الزملاء في “الاتحاد الثقافي” لملتقى خاص على هامش معرض الكتاب، ذكر المسهمون فيه أنهم جاؤوا إلى الرواية الجنائية من عملهم في حقول مهنية تتصل مباشرة بكشف اللغز الجرمي بواسطة الأدلة الجنائية، والبصمات، واستخدام علم الجينات والتكنولوجيا الحديثة، وعبر مشاهدات واقعية أخضعوها لتداولية مفاهيمهم المهنية، كمسرح الجريمة والشاهد الصامت وغيرهما.

لكن انعقاد مهرجان الرواية البوليسية أو السوداء في إسبانيا قبل أسابيع، وما صاحبه من عروض الفيلم الأسود وإصدار يومية الصحيفة السوداء، أعادت لي الرغبة في مناقشة موقفنا من هذا النوع الروائي المهمّش في أدبنا. وتساءلتُ عن إمكان تفسير ذلك بضخامة نسخة الواقع من الجريمة سياسيةً واجتماعية ونفسية، بمقابل نسخة الفن التي لا تجد لها جدوى في فضاء تفوق مفرداته أية مخيلة. لقد أراد منظمو المهرجان أن يُغنوا تجارب الكتابة البوليسية وعرض تاريخها المقترن بأسماء، مثل أجاثا كريستي وكونان دويل وموريس لوبلان وشخوصها الشهيرة، كشارلوك هولمز وأرسين لوبين، وروادها مثل أدجار ألن بو الذي يقول بورخيس إن كتاباته تحافظ على النظام في زمن الفوضى، وإنها إنجاز يستحق منا الاعتراف ولا يخلو من استحقاق.

وفي مراجعة لسبب نعتها بالرواية السوداء يرد تفسير طريف يتعلق بالأجواء المظلمة أو ساعات الليل التي تدور فها الأحداث، وربما العمى عن رؤية حل لألغاز أحداثها وهوية شخوصها، ما يذكرنا بقول أحد المهتمين بها بأن تفاصيلها تجعلك تترك المصابيح مضاءة، كمعادل موضوعي للغموض والرعب والعتمة التي تثيرها قراءتها. فلماذا تضمر كتابتها في أدبنا السردي قصة ورواية وفيلماً؟

يجد الدارسون ميلاً لتصوير الجريمة في كتابات روائيين مكرّسين كنجيب محفوظ والطيب صالح وفؤاد التكرلي وسواهم، لكنها ليست منتمية كليا لاشتراطات البوليسي أو الجنائي كنظام يوحد العمل، ويتبع ذلك هشاشة السينما المتعلقة بالجريمة وضعفها، ما الدور الأخلاقي الذي تؤديه على مستوى التلقي. رغم أن قراءة أدب الجريمة شديدة السواد تلقى رواجا في أوساط قرائنا.

لقد حضر قرابة أربعمائة كاتب وكاتبة مهرجان الرواية السوداء وعرضت أفلام وقُدمت تجارب وشهادات، لكن الكتاب والفنانين العرب ليسوا في سياقها، لانشغالهم بمعاينة نسخ الواقع الكثيف والمدمر المعروض عليهم في عصف بصري لا يجعلهم يرون سواه، كالضوء الباهر الذي يحجب الرؤية. هل السبب إذن في الوازع الأخلاقي ورغبتنا في تجميل مجتمعاتنا وتبرئتها من الدنس، ظناً بأن الجريمة هي من صنع المجرم وحده، وليس للسواد المحيط بها من ذنب في ارتكابها؟

* ناقد واكاديمي من العراق
– عن الاتحاد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *