روايات فلسطينية تعبد الطريق نحو التطبيع..!


وليد أبو بكر *

مضت بعض الروايات الفلسطينية في مسارات متدّرجة في خدشها للمزاج الروائيّ، بما يخرج بها عن الهدف الذي تتوجه إليه، فابتدأت أولاً بالتقليل من شأن الفلسطينيّ، ثم سارت نحو امتداح العدوّ في بعض سماته، حتى وصلت إلى قبول العدو، احتلالياً وثقافيا، كجزء من واقع، يفترض أن تكون العلاقة به طبيعية أو مقبولة، استنادا إلى هذا الواقع الجديد، لا إلى قضية الحقّ الذي يجب الدفاع عنه أمام كلّ شروط الواقع المفروض بالقوة، التي تهدف إلى تغييب هذا الحق.

في رواية عبد الرحيم زايد «الروح»، لا يكفّ الكاتب لحظة واحدة عن الاستخفاف بكل ما هو وطنيّ في العمل الوطنيّ الفلسطينيّ، وهو يميل إلى التركيز على هزيمة هذا العمل، بعد تجريده من كلّ ما هو إيجابي فيه، ويتناسى كليا ما حققه جيل الثورة من إبراز للهوية الفلسطينية التي كانت مطاردة وفي طريقها إلى الضياع، بين زمن النكبة وزمن النكسة، ومن «إدامة شعلة القضية الفلسطينية والحفاظ عليها في الشتات، حيث قاعدتها المتقلّبة في ظلّ حصارها وتراجعها عالميا وعربيا… فقد أراد قبل كلّ شيء ألا تتحوّل فلسطين إلى قضية منسية، لهذا أبقاها حية في الضمائر، وعلى مدى الأزمان… لكنه حمى القضية من التصفية في ظلّ تراجعات استراتيجية وانكسارات أساسية واهتزاز الأرض تحت أقدامه».

في هذه الرواية، يبدو موقف الإدانة مسبقا تجاه حركة المقاومة الفلسطينية، منذ نشأتها، حتى قيام السلطة. إنها منذ البداية الناجحة في معركة الكرامة، ومن وجهة نظر الشخصية التي تحمل وجهة النظر، «مجرّد فقاعات صابون، لن تبني شيئا، ولن تترك أثراً ثورياً على أي صعيد». وهي تعمد إلى تجنيد «قطّاع الطرق»، الذين سيتحوّلون في النهاية إلى قادة ومسؤولين وأصحاب سلطة. كما تضمّ إليها جبناء كانوا يختالون بالأسلحة أمام صبايا الحيّ، لكنهم اختفوا عندما ظهرت جدية الأمر. وحتى الشجاع المخلص، فإنه ينتهي بأن يخوض معركة خاسرة في اللحظة الحرجة، تبدو كنوع من الانتحار، خيبة أو يأسا. والرواية لا تتردّد في أن تضع على لسان أشجع رجال الثورة، كما صنفته، هذا القول الغريب: «أعلم بأن الثورة انتهت قبل أن تبدأ، لكني اخترت مصيري أنا وهؤلاء الرجال».

وفي تصويرها لانتفاضة الأقصى، وهي في قمة الفعل، بذلت الرواية جهودا كبيرة في تسخيفها، واعتبارها «مجرّد تعبئة فراغ»، وهي لم تر أيّ بطل في الانتفاضة، سوى من «يدخل محالّ وسط المدينة (…) ويفرض على صاحب المحلّ أتاوة أو خاوة، وذلك بصفته من مطاردي الانتفاضة، وصاحب مهامّ عسكرية (…) وكلما احتاجت الانتفاضة المزيد من الوقود، خرج الرئيس العجوز بهيئته الأبدية هاتفاً بشعار بسيط يحرّض فيه الشباب على الشهادة»، وغير ذلك مما يعتبر تجريحاً لكلّ شيء، لا نقداً بنّاء لأخطاء كثيرة يمكن الاعتراف بها، ودعوة، ولو روائيا، إلى الاعتبار بها، وتعديلها، استنادا إلى الفهم الذي يقول إن هناك فرقا شاسعا بين النقد والتجريح الذي ينطلق من هدف مسبق، ولا يكون مقطوعاً عما سيجيء بعده، مما يصبّ في خانة الانحياز إلى الاحتلال.

وقد تكون هذه القصدية جزءاً من ظاهرة روائية، تحاول أن تنال شهرة طارئة عن طريق دغدغة المشاعر السياسية للقارئ، (بما يشبه دغدغة المشاعر الجنسية) باستغلال فترة الانحسار الوطني، عربيا، وتجريح كلّ شيء في تجربة المقاومة الفلسطينية، كما يمكن أن يلاحظ في رواية سامية عيسى، «حليب التين»، التي خلطت بين دغدغة الحالتين، حتى وإن كانت لا تصبّ ـ بشكل مباشر ـ في صالح الاحتلال، حين تدين التجربة الفلسطينية في لبنان، لا من باب النقد الذاتيّ الإيجابيّ، وإنما لتبرير البحث عن مهرب، بالتخلي عن الوطن بشكل كليّ، والهجرة إلى عالم مختلف.

ولم يفت ذلك رواية أحمد رفيق عوض «آخر القرن»، وإن صبّت غضبها على ما حدث بعد اتفاقيات أوسلو، سواء أكان ذلك على مستوى الوظائف أو المفاوضات. وهي تقدّم الفلسطيني في ذلك انتهازيا، وجاهلا، وعشائريا وغير وطنيّ، ولا يبحث إلا عن مصلحته الخاصة. إن سفيان، الذي صار مديرا عاما في إحدى الوزارات، سبق له أن «انسحب من منظمة الشبيبة، وقبل وظيفة كبيرة في إدارة الاحتلال المدنية، وبعد أن قامت الانتفاضة، استقال من الوظيفة، ثمّ أعاد اتصالاته، وبدعم من عائلته الكبيرة، تبوأ مراكز قيادية. كالعادة، عشيرتنا تتقدم على ثورتنا، وثورتنا تطيع عشيرتنا». وتتحدث الرواية عن قاذفي الحجارة الذين أصبحوا مدراء في مؤسسات مدنية، وضباطا في مؤسسات عسكرية (مع أن الواقع يناقض ذلك إلى حدّ كبير)، ثمّ تنتهي إلى إثارة مجموعة من الأسئلة ـ غير الاستنكارية ـ التي تكاد ترى في إسرائيل حبل نجاة للفلسطينيّ، لأنه مرتبط بها أكثر من ارتباطه بأي طرف آخر: «أين نذهب بمئات الآلاف من العمال؟ كيف نطعمهم؟ أين نذهب بمرضانا؟ كيف نسافر؟ من أين نأتي بالدواء والماء والكهرباء والهواتف والغذاء؟».

ولا يجوز أن يفهم أن هذه الملاحظات حول النظرة السلبية إلى الواقع الفلسطينيّ، معنيّة بما هو واقعيّ في الحياة، حتى وإن كانت موجودة هناك بالفعل، «فلا يمكن بعد تجاهل أن ما يحدد الرواية اليوم هو تحرّرها من قيود التصوير الواقعي؛ فهي لا تستمدّ دلالتها من تعلّقها بالعالم، بقدر ما تستمدها من المرجع الأدبيّ، بحيث تكون الكلمات إشارات تحيل على السياق الثقافي، لا على مباشرة الطبيعة».

محاكمة الرواية تجري من حيث علاقتها بالمزاج الروائيّ الذي تكسره، وتكون سببا في خدش مقولته الأساسية، خصوصا وأن هذه الملاحظات السلبية تكون ـ في الغالب ـ متلازمة مع أخرى إيجابية، في صالح الطرف الذي تناصبه الرواية العداء، أو يفترض أنها تفعل شيئا من ذلك. ومما يؤسف له أن كثيرا من هذه السمات الإيجابية التي تتعلق بالطرف النقيض، تفلت من الكتاب، وتشكل عبئا ثقيلا على المزاج داخل رواياتهم، وقد تحرفها عن أهدافها.وقد نجد مثل التوجه السلبيّ ضدّ ما هو فلسطينيّ في روايات أكثر جدية مما أشرنا إليه من قبل، ففي رواية ربعي المدهون، «السيدة من تل أبيب» مثلا، تبدو تصورات الفلسطيني عن الفلسطيني سلبية في بعض الأوقات، فالسائق الذي أقلّ بطل الرواية من مطار بن غوريون، «زلمة من ريحة البلاد الطيبة»، كما يصفه البطل، لكنه لا يلبث أن يتّهمه بالنصب: «بس ضحك عليّ، بيحبّ ريحة مصاري هذيك البلاد أكثر. مصاري برّة. الدولارات الخضرا اللي ريحتها غير شيكل». ويطال هذا الرأي السلبي أفكار السكان، أو يصف تخلّفهم بمعنى أدق، فبطل الرواية، حامل مقولتها، يصدر حكما مسبقا وقاطعا يقضي بأن أمه سوف تصرخ فيه، لو انه اصطحب معه يهودية إلى غزة: «يا سخام البين علينا ويا فضيحتنا عند اللي يسوى واللي ما يسواش. روح خليها تروّح أحسن يقتلوها ويقتلوك»، مع أنه غائب عن أمه منذ عقود طويلة، ولا يعرف شيئا عما حدث لموقفها خلال تلك الفترة الطويلة.

وينسحب هذا الخروج عن المزاج على التفاوت في وصف الطبيعة، كجزء من الأوضاع التي تتحرّك فيها المشاهد، وترسم صورة للمزاج الروائي، ففي رواية «السيدة من تل أبيب» أيضا، وعند الاقتراب من غزة، تصبح الأرض جرداء، «وكلّما ابتعدت السيارة (عن البلدة الإسرائيلية) رحلت عن أرضها البيوت، وتعرّت الأشجار من أوراقها، استعدادا للجفاف والانقراض، وتخلّت الأرض عن خضرتها، وتجرّدت حتى من أعشابها غير النافعة، وفقد المكان ملامحه».

لكن الرواية نفسها لا تتردّد في التنويه ببلدة «سديروت» الإسرائيلية المقامة في النقب الفلسطينيّ المحتل، على حدود غزة، «التي بدت جميلة بأسطح بيوتها القرميدية الحمراء، وقد تناثرت بتناسق هارموني فوق رابية صغيرة كأنّها ضيعة سويسرية، تحيط بها أشجار خضراء كثيفة، تبدو من بعيد، وأخرى اصطفت أمام العديد من بيوتها التي تتفرّج على الطريق العام»، كلّ ذلك دون الإشارة إلى أن الأرض مغتصبة من أصحابها، ودون إدانة لتحويل أرض في هذا الوقع، إلى نمط خارج عن بيئتها.

ومن المؤكد، أن القارئ، (خصوصا حين يكون خالي الذهن من فهم معنى الاستيطان) وهو يقارن مشهد الاخضرار بمشهد الجفاف الذي يليه، لدى تجاوز هذه المدينة ـ المستوطنة، سيخرج بانطباع يقول إن من بنوا «سديروت» أحقّ بالأرض ممن تركوها جرداء، وهو في الواقع يعّزز المقولة الصهيونية ـ غير الصحيحة ـ عن أرض جرداء يحوّّّّّّّلها الاستيطان إلى جنة.

ومن المهمّ، في الإطار الذي يتعلّق بتخضير الأرض، الإشارة إلى أن المقارنة بين حالتين تخصان الأرض، غالبا ما تختار تجميد الأرض الفلسطينية عند زمن النكبة، بينما تتحرّك بالأرض التي يديرها الاحتلال، كلّ الزمن التالي، دون أن تشير الروايات التي تطرّقت إلى وصف ذلك، إلى التحوّل الذي حصل في استثمار ما تبقى من الأرض الفلسطينية بعد النكبة، وإلى أن تقدّم الزراعة، داخل مناطق الاحتلال الأول، يحسد التقدّم الذي حدث في بعض المناطق الفلسطينية، ويعمل على الاستفادة من خبرات من قاموا به، ويقلّده أيضا.

ومع أن رواية سحر خليفة، «أصل وفصل» تصور واقع الأرض عند الطرفين في الزمن نفسه، ومع أنه لا يفترض تلمس ضير في تداخل العلاقات الاجتماعية والعملية والعاطفية بين اليهود والفلسطينيين، لأن كلّ ذلك يحدث ـ في الزمن الروائيّ ـ قبل النكبة، حيث كان طبيعيا أن توجد مثل هذه العلاقات، لكن تجاوز الأمر إلى درجة الإشادة بالاستيطان، ممثلا بالكيبوتس، الفعل الأساسيّ للصهيونية الطامعة بفلسطين، يبدو غير مقبول، حتى وإن كان الوصف واقعيا. إن المبالغة في هذا الوصف تكون صادمة للقارئ إلى حدّ كبير، وهي تتحرّك عبر صفحات عديدة من الرواية، لتبذل في طريقها سيلاً من السمات الإيجابية لصالح كيبوتس إسرائيليّ، (هو في محصلة الأمر جزء من الاستيطان)، من وجهة نظر امرأة فلسطينية عادية وزوجها العاديّ، حين ذهبا ـ بنوع من السذاجة التي تثير السخرية ـ لإقناع صبية يهودية بأن تقطع علاقتها بشاب فلسطيني، لأنها علاقة تضرّ بقريبة لهما، وهي محكومة بالفشل، من وجهة نظرهما.

لقد فوجئ الزوجان بكلّ ما في الكيبوتس من نظافة، وزراعة، ونظام وتعاون بين سكانه، وظلّ ذلك يثير إعجابهما، مقارنة بالحياة شبه البائسة التي يعيشها مجتمعهما، وخصوصا عندما يجري تصوير شكل المرأة وسلوكها، ودهشتها، في مقابل دهشة الآخرين منها. ومن قراءة هذا المشهد بدقة، ثم تحليله، مقارنة بما تقوله الرواية، أو تريد أن تقوله، سوف يتضح الأثر القاسي للاستخفاف بالمزاج الروائيّ، أو الجهل به، على العمل الروائي بكامله.كان الرجل الفلسطينيّ في المشهد يمشي خلف البوّاب مذهولا مشدوهاً «بخطوات واسعة عصبية، وزوجته تهرول وراءه بالكعب العالي والمنديل ودستة مباريم وأساور من الذهب الحرّ تملأ الأسماع برنين لطيف جعلت البواب يلتفت للخلف عدة مرات، ولا يعلّق، بل جعلت رأسه كمن انتشى بنغم آسر. (…) حينذاك التفتت عيون، كلّ العيون، تتأمل المرأة المختبئة بالمنديل وتطقطق بالكعب العالي وينبعث منها صوت لطيف وهسهسة حميمة للجورجيت الذي يموج ويتدفق تحت جاكيت أسود يتعدى الخصر. كانت ما زالت تغطّي وجهها خوفا من أن يراها الناس مثل العمال، لكنها الآن خائفة وترتجف برعب من جوّ اليهود. فهذا الجو غريب كئيب فيه رجال مثل النسوان وفيه نساء مثل الرجال والكلّ يحدّق بتساؤل».

أما الرجل اليهوديّ الذي يرافقهما داخل الكيبوتس، فهو عاديّ جدا، وواثق مما يقوم به، يأكل مع الآخرين، ويقود جراراً زراعيا، ويعمل مثل الآخرين، ومع ذلك، فهو أستاذ في الميكانيكا، (وليس ميكانيكيا بالوراثة الفطرية، مثل الرجل الفلسطينيّ)، وهو يتعامل مع الحياة بشكل مختلف، فلا ينظر إلى العامل نظرة دونية، ولا يتعالى على العمل اليدويّ، بما في ذلك أخذ دوره في تنظيف المكان، كما أنه ينطلق في ما يقوم به عن معرفة علمية، تكشف جهل الفلسطيني العامل الذي يكرر وصف نفسه بأنه موظف، ويؤكد جهله حين يصرّ على أن شجر الزيتون الذي يراه، لا بدّ وأن يكون من زمن المسيح، لأنه لا يمكن أن يثمر خلال عشر سنين، كما يدعي الأستاذ اليهودي.

وحين ينتقل المشهد إلى الحديث عن الواقع المكانيّ داخل الكيبوتس، فإن صيغته ستثير الإعجاب بهذا الواقع، فقد «كان الشباك يطلّ على ساحة رملية وخلفها شجر الليمون، وكان يحمل بغزارة ويلمع في الشمس بلون ذهبي ساحر. همست رشا بدهشة وإعجاب: شوف الليمون. نظر وحيد وتساءل عن سرّ حمل الليمون في عزّ الصيف، لأن الوقت ليس وقته، فأجاب المسنّ بأن الشجر عندهم يحمل على طول، صيفا شتاء وبكلّ الأوقات (…) تذكر وحيد ما سمعه من الناس أن اليهود يجعلون الشجر يحمل على طول، بلا توقف. البعض فسّر الأمر أنه استغلال واستنزاف للتربة ـ كعادة اليهود ـ والبعض الآخر فسره بأن اليهود جاءوا بعلوم وفنون الغرب، وسبقونا بالزراعة والكهرباء والميكانيكا (…) كان الجو جميلا والسماء زرقاء ملساء مثل الساتان، والزرع يملأ الأنظار بخضرة نضرة، ورائحة الأرض تملأ الفضاء بعبير لطيف». ثمّ لاحظ الرجل الفلسطينيّ أن «زرع اليهود أطول وأنضر ويحمل أكثر. يعني التفاح يحمل أكثر وكذا الأجاص والخوخ والعنب. لكن الزيتون على حاله منذ القدم، منذ عهد المسيح. فعلق مستغربا كيف أن كل المزروعات قد تحسنت إلا الزيتون، وربما كان ذلك لأن الزيتون كبير في السن». وعلى القارئ أن يتذكر هنا أن الزيتون ـ الوحيد الذي لم يتحسن ـ هو الرمز الدائم للأرض الفلسطينية!

إن مثل هذا المشهد، الذي يخرج الفلسطينيّ مهزوما مهموما بشكل كامل في نهايته، يسرق عاطفة القارئ بقوّة، ويتجه بها نحو أحقية سكان الكيبوتس بالأرض، (رغم أنه احتلال مصغر، في زمن سبق الاحتلال الأوسع)، لأنهم يستطيعون أن يعتنوا بها، وأن يحيلوها إلى خضرة دائمة، بدلا من الحالة التي كانت عليها، وفي كلّ ذلك ما يخلق انحيازاً للمقولة المزعومة التي سبقت الإشارة إليها.

بين الواقع والفنّ

وغالبا ما ترد المقارنة في مثل هذه المشاهد، لتنتهي بما يكرّس فوز ما يمثل الاحتلال على ما يقاومه. وتكاد رواية «آخر القرن» تكون قائمة على مثل هذه المشاهد، فالفلسطيني ـ كمفاوض ـ رأى تل أبيب «مدينة نظيفة، تشعر بأوروبيتها من اللحظة الأولى (…) المدينة نظيفة لدرجة مستفزة»، وفيها شعر بأنه في مدينة سينمائية، أما حيّ العجمي العربي الشهير، فقد بدا «بحجارته الصفراء الكابية وشوارعه الضيقة وبيوته المتلاصقة الصغيرة، وحبال الغسيل المثقلة، والرجال السمان، والنساء المتصايحات، أشبه بإضافة غير مبررة»، والفلسطينيّ ـ كشخصية هامة ـ حين دخل وطنه لأول مرّة، وأدخل المستشفى، عن طريق الإسرائيليين، «حدّق في الممرضات الجميلات وأياديهن الناعمة الشفافة… (ولم يأته الموت)، بل أحيط بعناية فائقة من ممرّضات يشبهن ممثلات السينما، إن لم يكنّ أجمل».

ومثل هذا الوصف الإيجابي للظروف متوفر إلى حدّ كبير في بعض الروايات الفلسطينية، ربما تحت وهم العواطف الإنسانية، أو تحت خداع الواقعية الطبيعية، وهي أمور لا تنسجم مع الفنّ الروائي إلا إذا خضعت للمزاج العام فيه.

ويبلغ خرق المزاج الروائيّ حدا غريبا في رواية سحر خليفة «حبّي الأول»، حين تقدّم المستوطنين بصفات تثير الإعجاب، في مقابل صفات يصعب ألا توصف بالوحشية، تحملها الرواية للمدافع الفلسطيني عن تراب وطنه. يجيء ذلك على لسان أحد الثوار، بعد ضغوط عليهم من أجل فكّ الحصار عن المستوطنات اليهودية: «قلنا لهم: نفكّ الحصار شريطة أن يلقوا بأسلحتهم ويتوقفوا عن القتال ويعيشوا معنا كبقية المسلمين سواء بسواء. رفضوا ذلك. قالوا إنهم شعب مختار، فواصلنا الحصار. قالوا داود والهيكل ولا نبيّ إلا موسى فواصلنا الحصار. ناس المستعمرات ماتوا من الجوع، أكلوا الأعشاب، أكلوا السحالي والجرذان، شربوا ماء الآبار العتيقة ومضغوا الخرفيش، ورفضوا التسليم فواصلنا الحصار. وأنا أقول، قال القائد، ليتواسطوا أرواح الأنبياء والمرسلين، فلن نرضخ ولن نفكّ الحصار».

إن الهدف الذي يكمن في ذهن الكاتبة عبر المشهد الذي اقتبست منه الفقرة يسير في اتجاهين: الأول هو تصوير ضعف الإمكانيات التي يملكها المقاتل الفلسطيني بسبب عجز العرب عن تزويده بالسلاح، في مواجهة المستوطن الذي يغرف من مخازن الجيش البريطاني ما يشاء، والثاني هو استثمار ما لدى هذا المقاتل من مصادر القوة، وفي مقدّمتها الإصرار على حصار المستوطنات حول القدس، حتى يتمّ تجريد سكانها المئتي ألف، من أسلحتهم، ومن أطماعهم في الاستيلاء على القدس وفلسطين. لكن الأسلوب الذي صور به هذا الهدف، خروجا على المزاج الروائي العام، يمكنه أن يثير التعاطف مع المستوطنين المحاصرين، وأن يثير الإعجاب بصمودهم أمام غياب الإنسانية عمن يصرون على الاستمرار في حصارهم، رغم كلّ ما أوصلهم إليه الحصار، من أوضاع غير إنسانية.

وإذا كانت صفة «الوحوش» مضمرة في المشهد الذي يروى عن حصار المستوطنات، فإنها ترد صريحة تماما في رواية «الروح»، فعندما يذكر الفلسطينيّ/المتهوّد حادثة قتل الإسرائيليين في مركز رام الله بطريقة بشعة، ويصفها بأنها حادثة شاذة، فإن أخاه الأصغر يعلّق بالعبرية: «حتى الوحوش لا تفعل فعلهم». ويمثل ماجد، شقيق المفاوض الفلسطيني محمود السلوادي في «آخر القرن» نموذجاً مجسدا لغياب الوعي بالمزاج الروائيّ، حتى وهو يتحدث بما يمكن أن يوصف بأنه منطق واقعيّ: إنه يقف على ظهر سقالة، يبني جداراً آخر في بيت آخر في مستوطنة تتوسع من جديد، ويشاهد جرّافات المستوطنين وهي تخلع أشجار الزيتون، ويتحدّث عن عمله في بناء المستوطنات، مع فلسطينيين مثله، منذ احتلال البلاد، وعن أنه شارك في بناء عدة مستوطنات جديدة، ويعتبر من حوله ذلك صراحة منه، لكنهم يعرفون أنها صراحة مشروطة، أو هي انتهازية في وصف أدقّ، لأنها تظلّ في الحدود التي لا تزعج معها اليهود من ناحية، ولا تهدّده بالطرد من عمله من ناحية أخرى، وهو يقدّم نفسه مشاركا في البناء، تماما مثل ضابط أمن المستوطنة الذي يحاوره في سبب قبوله العمل داخل إسرائيل، ثمّ لا يتردّد في الإجابة الصريحة التي تفضل العمل لدى اليهود: «أنتم تعطونني في اليوم مئتين وخمسين شاقلاً، في حين لو عملت في مصنع برام الله مثلا لحصلت على خمسين شاقلاً في أحسن الأحوال». وهذا المشهد، الذي لا يقف وحيدا في الرواية، يبثّ رسالة شديدة السوء تجاه الفلسطينيّ، لا يمكن أن تغفرها أية نوايا مضمرة، لأن المزاج الروائيّ لا يهتمّ بالنوايا المضمرة وهو يقدم نفسه إلى القارئ بكلّ جلاء.

وقد يصل الإعجاب حدودا مبالغا فيها في رواية «آخر القرن» التي تمنح المفاوض الإسرائيليّ صفات استثنائية تجعل تفوّقه على الفلسطينيّ في أي مجال، أمرا حتميا، وكلّ ذلك من وجهة نظر المفاوض الفلسطينيّ، الذي تفترض ظروف الرواية أنه معدّ حتى يكون ندّا.

إن حاييم شلومو، منذ البداية، ومن وجهة نظر المفاوض الفلسطينيّ محمود السلوادي، الشخصية المركزية في الرواية، «لطيف لطف الماء البارد في هذا الحزيران، وهو ناعم وصاحب نكتة وله عطر خفيف ساحر، ويتحدث الإنجليزية بطلاقة أغار منها، ويحمل حقيبة قديمة ملأى بالأوراق والخرائط والنماذج، لا أمتلك مثلها». لذلك لا يبدو غريبا أن يشعر الفلسطينيّ بأن خصمه يملك مفاتيح السيطرة، مع بدء التفاوض، فقد «كانت الرائحة طاغية تعلن عن حضوره وقوته، بجرمه الصلب القصير، ووجهه المدوّر ورأسه الأصلع إلا من خيط رفيع من الشعر الأشيب الناعم فوق شحمتي أذنيه (…) ولما رمى رأسه إلى الوراء (…) بدا قويا ومسيطرا في الغرفة الصامتة».

وترد مجموعة من الصفات الاستثنائية للإسرائيليّ في التقرير الرسميّ الذي يرفعه المفاوض الفلسطينيّ إلى رؤسائه: فهو يعرف كلّ شيء عنه، وعن كلّ شيء يجري الحديث حوله، ما يشعر الفلسطينيّ بشيء من الدونية تجاهه، ويجعله يكيل له سلسلة من المدائح الظاهرة والخفية، من سعة في المعلومات، وإيمان بالوثيقة، وإلمام بالتفاصيل، ومراجعة للذات، إلى الردود المعدّة، والموهبة الطبيعية في إعطاء دروس سياسية، والمهارة الشديدة، والقدرة على إرباك محاوره، والشعور بالانتماء إلى جماعة شديدة الذكاء.

شخصيات روائية

ولم يتوقف هذا الحال عند حدود وصف الطبيعة أو الأشخاص، لكنه انتقل بالتدريج إلى إدخال الشخصيات الإسرائيلية ضمن نسيج الرواية الفلسطينية، وضمن نسيج المجتمع أيضا، ليصبح وجودها مألوفا فيه. وتكاد رواية غسان زقطان «عربة قديمة بستائر» تتفرغ لمثل هذا الهدف، في مشاهد لا ضرورة لها، وتثير الاستغراب أيضا، وهي تنسج ما يشبه العلاقات العاطفية بين الرجل الفلسطينيّ والمرأة اليهودية، فصاحبة المقهى، اليهودية المغربية، في الطريق بين غزة والضفة الغربية، الذي يمرّ داخل إسرائيل، بدت جزءاَ من المشهد الطبيعي في علاقتها مع سائق التاكسي الفلسطيني، حين «وضعت يدها على كتفه، فاتكأت أساورها على قميصه، وتسللت برودتها إلى جسده، وتهاوت روائح ملتبسة من عطر وياسمين وبخور على يديه وصدره، روائح قادمة من صوتها ولهجتها».

أما بطل الرواية، الذي يتسم بنرجسية هائلة، تجعله يشعر بأن كل امرأة لا بدّ وأن تنجذب إلى سحره، كما هي عادة هذا النمط من الشخصيات النرجسية، فقد ركز هذا السحر على المجندة الإسرائيلية داخل القفص الزجاجي، ولذلك لم يجادل السمين الذي غشّ في الدور، لأنه «كان يرغب في مواصلة مراقبة المجندة من موقعه، وكان هذا السمين، بحركته المبتذلة سيوفر له وقتا أطول لذلك… عندما رفعت عينيها عن أوراق السمين لمحته، للحظة بدا أنها تحاول أن تتذكره. الحركة التي ضيّقت بها عينيها كانت تشي بتلك المحاولة».

متابعة علاقة الشخصية الفلسطينية بالمجندة الإسرائيلية تكشف الفكر الذي يقف وراء هذه العلاقة، وهو فكر يحاول أن يراها ممثلة لجزء مختلف من مجتمع الاحتلال، الذي ربته كلّ ثقافته على أن يعاديه، وكان متقبلا لذلك، وجاء اتفاق يساعده، «وكانت التعقيدات اللانهائية لإجراءات مثيرة للغيظ والنقمة جزءاً من هذا الاتفاق، يمنحه شعورا يقترب من الارتياح، لأن عليهم أن يفعلوا ذلك، ليكونوا «هم»، تلك مهمتهم، ومهمتنا أن نحاول التكيّف مع ذلك، ومواصلة التحديق فيما وراء أكتافهم، حيث علينا أن نصل. بالنسبة إليه، كان دوره واضحا، أيضا، في ذلك الاتفاق، أن يمرّ بصمت واقتضاب شديدين، وأن لا يتذمر، كانت الأمور تسير بشكل مثالي وقابل لأن يتعود عليه؛ الكراهية الصامتة والمتماسكة، وأن ينظر إليهم كما «هم»، غرباء ومؤقتين، وإسناد كلّ ذلك بالتجاهل التام. لذلك كان الأمر مفاجئا، بالنسبة له، عندما تخطت هي، تلك العتبة بتعسف شديد ودون أن تعتني بكلّ ما بناه وراكمه، ووجهت إليه تلك العبارات التي لا معنى لها ولا مكان في هذا السياق»، وهي، للمفاجأة، مجرّد ملاحظة أنه كثير السفر!

كانت المبادرة منها، ظاهريا، لكن الاستجابة تفيد بغير ذلك، فحين كانت تقلب صفحات جواز السفر، «استطاع أن يرى الجهد الذي تبذله لتبحث عن سؤال جديد، فكّر في أن يمنحها جسراً أو ممراً صغيراً لتواصل حديثها. ثمّة حبات عرق تهبط نحو منبت نهديها. فكر أنها في الثلاثين. يستقدمون هنا، غالبا، فتيات مراهقات عصبيات وكئيبات ويفتقرن إلى التهذيب، ولكن هذه تبدو مختلفة. انتبه إلى أنه يحاول أن يبعدها عنهم، أن يستدرجها إلى خارج الجماعة، حيث عليها أن لا تشبههم، هناك فقط يمكن أن يواصل الحديث معها، أن يأخذها نحو زاوية بعيدة لتختلف قليلا بما يكفي لأن يفكر فيها بطريقة مختلفة».

وبالرغم من أن هذا الميل «لا مكان له في السياق»، كما اتضح لصاحبه، وأن فيه «نوعاً من الغشّ» مثل غيره من المشاهد الخارجة عن سياق المزاج في بعض الروايات الفلسطينية، إلا أن الإصرار عليه يشي بأن في هذا الأسلوب حجة مقصودة، تتعلق بالاختلاف الذي يوصف به بعض الإسرائيليين، أو بإمكانية جذبهم إلى قضيتنا، أو بمعنى آخر، وهم «استدراجهم خارج الجماعة»، وهو وهم يجعله يبدو أن الراوي يرضى به، فهو «لم يتمكن من تفادي الإحساس بالراحة، الذي اعتراه وهو يرى أنهما وصلا إلى ملاذ أو مظلة وفّرتها لهما اللغة الثالثة، منطقة محايدة وباردة لكنها تقبل وجودهما معا، على غرابته (…) كان صوتها في تلك اللحظة يدخل إلى قلبه مباشرة، وبدا أنها تملك حقا ما، حقا صغيرا في أن تسأله، تلك الحقوق التي تنمو داخلك دون أن تنتبه أو تقصد، تلك التي تتشكل بحكم الزمالة أو الجوار».

* ناقد من فلسطين

( عن الدستور الثقافي )

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *