أنصاب جديرة


جمانه حداد

أصدرت بلدية ويستمنستر البريطانية مذكرة أعلنت فيها موافقتها على اقامة نصب تذكاري في لندن لملكة التشويق في الرواية البوليسية أغاتا كريستي. وسيتم وضع النصب في قلب “كوفنت غاردن”، أي وسط منطقة المسارح، للتعبير عن أهمية كريستي لأن مسرحياتها لا تزال الى اليوم أطول العروض المسرحية عمراً في العالم. وسيأخذ التمثال ـ النصب شكل كتاب عملاق مع تمثال نصفي للكاتبة وسط صفحة مفتوحة، مع تفاصيل عن حياة كريستي وأعمالها.
عندما قرأتُ الخبر أعلاه، لم أستطع سوى أن أتحسّر على أحوالنا هنا، حيث تسقط الى الحضيض ثقافة بلداننا ومدننا، التي تقيم أنصاباً للسياسيين، وهم في غالب الأوقات أهل الاحتيال والكذب، وتهمل غالباً مبدعيها من كتّابٍ وفنين، وهم في واقع الأمر أهل الفكر والموهبة. شتان بين المبادرة البريطانية وبين تصرف مؤسساتنا الرسمية المخزي حيال حيال الأدباء والفنانين والمثقفين.
لكن، لماذا التحسر؟ فالإناء الشرقي ينضح بما فيه. وإناء بلداننا ليس فيه – يا للعار – سوى المال الموحل والعفِن وسوى الاهتراء والأمية والفساد والتخلف.
أهل المؤسسات عندنا منشغلون بتفاهات الدنيا، فكيف ينشغلون باحتضان شاعر أو رسام أو نحات أو روائي؟ بل كيف ينشغلون بإقامة تمثال له في ساحة من ساحات المدن التي تحتلها أنصابهم وأنصاب أسيادهم من السياسيين التافهين؟
لأجل مثل هذا السبب الرمزي والدلالي بالذات، يسخر منا “العالم”، ويعتبرنا متخلفين، ودون مرتبة الاحترام.
يكفي أن نرى كيف يتعامل هذا “العالم” مع المسؤولين في بلداننا، فهو يُظهر لهم الاحترام والتبجيل، بسبب انتهازيته الدنيئة ومصالحه المادية معهم، ويكنّ لهم الاحتقار والازدراء، لأن هذه هي حقيقة مشاعره تجاه حكّامنا وشعوبنا.
يكفي أن نعرف أيضاً كيف يتعامل هذا “العالم” مع كل فرد منا، لمجرد أن يرمي نظرة مزدرية على جوازات سفرنا، في مطارات الدنيا.
يكفي أيضاً وأيضاً أن نشعر كم يرسل إلينا هذا “العالم” الإهانات المعنوية في طريقة تعامله مع مواطنينا العاديين، لمجرد إنصاته الى اللغة، أو رؤيته طريقة اللباس. فهو يُسقط أحكام قيمته بدون تمييز. وهذا لا يأتي من عدم.
لا أبرر للغربي تصرفه التمييزي والعنصري، بل أشجبه وأدينه. لكني أعرف في قرارة نفسي أن عندنا من الأسباب المخزية الموجبة لهذا التصرف، ما لا يردمه ألف ألف تمثال لشاعر أو مبدع في ساحات عواصمنا ومدننا التي تحتلها أنصاب “الآلهة” من حكّام وسواهم.

 

– عن النهار

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *