في ذلك اليوم لاح بورقيبة قزماً

في ذلك اليوم لاح بورقيبة قزما

محمد علي اليوسفي

 

اقتربت الباخرة فشعرنا بتضاؤلنا. كان الأبطال المندحرون يطلون من الكوى الضيقة بشرا في الذاكرة وأسرى في الواقع. وزعوا من عليائهم إشارات تائهة، ثم وصل الرئيس.
لا بد من التدقيق: الرئيس لم يصل، بل أُوصِلَ. كان مرفوعا على أكتاف مرافقيه. يغوص فيها، فلا يكاد يظهر، بينما يظهرون في جلبة حوله. يعيدون رفعه قليلا، حتى يبرز جسمه الضئيل وحركة يده التي تحيّي الباخرة بحركته التي باتت خرقاء ولازمت أيامنا الأخيرة. جسمه الضئيل ازداد تجمعا في منطقة الرفع تلك، بكل سنوات حُكمه التي لم
تفسد شهوة السلطة، كما كان يعدنا في كل عيد من أعياد ميلاده صراحة: سوف نلتقي بعد عشرة أعوام! هو باعتباره رئيسنا، ونحن باعتبارنا ممنونين له وللعناية الإلهية التي
تشترك معه في صفة واحدة على الأقل: الأبدية!
كان رئيسنا إلى الأبد، رئيسنا الذي علّم من جاء بعده السحر: أن تبدأ انسانا ناقصا وتنتهي أبديا. غير أن زمن الأبدية انكسر مرتين: مرة بمجيء الجنرال مدعيا إصلاح الشيخوخة العاجزة أمام الأبدية، ومرة بمحاولته ركوبها لكن بسقوطه المدوّي الذي لم يخل بدوره من دور مختلف لجنرال آخر…
الباخرة، ربما بسبب تضاؤل الرئيس، تزداد ارتفاعا. لكنها لاحت كذلك منذ أن اقتربت من ضآلتنا أيضا ونحن في ميناء بنزرت. اسمها سولفيرين، أليس كذلك؟ وزعت علينا
مجاهدين سوف يُضيعون الكثير من توازنهم، في بلد أحبهم وأحبوه. لكنه لا يشبه بيروت ولا عمان، ولا فلسطين طبعا، فلسطين التي لم يخلق الرب مثلها جمالا وظلما، منذ أن
فتحت ذراعيها للأنبياء. وهي نفسها التي سوف تخرب أي مقام آخر تاركة الحالمين بها ضائعين بين المنافي: لا هم في هذا الهنا المتعدد والمتوزع على جغرافيا الرب، ولا هم
هناك؛ حيث منبت الأنبياء القساة.
بدؤوا بالنزول!
حركة ملتبسة محكمة الإخراج:
كل نازل يهرول بحركة قتالية خفيفة ويسلم سلاحه في مكان معلوم. ثم يتابع خروجه متبرعا بحطّته الفلسطينية التي يتزاحم عليها الجمهور المبتهج. مقاتل إثر مقاتل
يهرولون ويتجردون من شيء ما، للذكرى، بينما الذكرى الأصل تزداد توهجا.
لا شك أن الرئيس قد انسحب، ما دام الكلام لا يأتي به الآن، ولا الصور.
أرصد كوى الباخرة بحثا عن وجوه أعرفها، أسمع اسمي. وأكثر من ذلك أسمع من يطالب برقم هاتفي؟ أمتثل
وأرسم الأرقام تباعا بأصابعي. هناك من يراقبني من ورائي. وما المشكلة؟ لم نصل بعد إلى أيام الرعب الأمني.
عدت من بيروت قبلهم. كان ذلك قبل ثلاثين سنة. في منتصف شهور الحصار، وعندما بدأت تتردد فكرة إجلاء المقاتلين عبر البواخر، قلت
لأصدقائي: ‘ من الأفضل لي أن أعود إلى بورقيبة بالطائرة!’ وهكذا كان. من بيروت المحاصرة، إلى طريق يراقبه الإسرائيليون ويشجعون المنسحبين مثلي، ومثل فيصل دراج في السيارة نفسها، لم تحدث لي مشكلة إلا مع الجمارك السورية. اللعنة! استقبلوني برمي كل محتويات حقيبتي على الأرض. طارت أشيائي القليلة وبعض ما عزّ عليّ تركه من ملابس زوجتي العروس الفلسطينية التي سبقتني إلى تونس. استجمعت كل شيء بغباره وفوضاه، مستكينا، خانعا لحراس العروبة الممانعة.
وفي دمشق وجدت المدينة تعيش.أما في تونس فقد دخلتها آمنا: كنا لم نصل بعد إلى أيام الرعب الأمني. وهي أيام سوف تأتي لاحقا، وتجرجرني بين المبنى الرمادي العتيد الذي دوت أمامه كلمة ‘ارحلْ’ والمراكز التي أجاورها في السكنى، بغير تهمة محددة إلا ‘ الغموض’ وعدم الولاء؟

* أديب من تونس

– عن القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *