بين فيروز ….ودمشق

بين فيروز ….ودمشق

محمود الزيباوي

هام شباب سوريا بفيروز في مرحلة البدايات، وحملوا لقب “الفيروزيين”. أعادت فيروز العلاقات بين اللبنانيين والسوريين في الخمسينات، و”قطعت القطيعة” بين البلدين الجارين في الستينات، وباتت رمزا لهذه الشراكة المضطربة دائماً.

بدأت فيروز مشوارها الفني في مطلع الخمسينات، ودخلت سريعاً مع الأخوين عاصي ومنصور رحباني في شراكة فنية توزّع نشاطها على “إذاعة لبنان” و”إذاعة الشرق الأدنى”. دخلت هذه الشراكة في منعطف جديد حين تبنّاها مدير الإذاعة السورية أحمد عسّه في عام 1952، وكان لهذه الإذاعة الفضل الأكبر في نشر أعمال فيروز. تعرّف أحمد عسّه إلى الأخوين رحباني وفيروز عبر “إذاعة الشرق الأدنى”، وأرسل في طلبهما من طريق فيلمون وهبي، ومنحهما الحصة الكبرى من وقت الميكروفون السوري خلال السنوات الخمس التي أمضاها كمدير عام للإذاعة. خلال هذه السنوات، سجّلت فيروز في دمشق مجموعة هائلة من الأغاني تضمّنت العديد من الأعمال الوطنية الخاصة بسوريا، منها سلسلة من الأناشيد كتبها ولحّنها الأخوان، مثل “موطن المجد”، “بلادنا لنا”، و”فتاة سوريا”. كما تضمنت “ذكرى بردى” للأخطل الصغير، ولوحة غنائية بعنوان “دمّر”، إلى جانب قصيدة رحبانية بديعة، “إلى دمشق”، مطلعها: “بلادي وحبّك يا موجعي/ معي يعيش يا بلادي”. وفالس “ضفاف بردى”، وختامه: “ضفاف بردى يا دارة الأحلام/ على جبين الشام تلوّن المدى”.
قبل أن تغنّي في بعلبك عام 1957، كانت لفيروز إطلالات حيّة خجولة في دمشق يصعب رصدها بشكل دقيق. في أكثر من حديث صحافي، تكرّر الكلام عن ظهور في “نادي الضباط”، وإنشاد لقصيدة “ذكرى بردى” للأخطل الصغير، و”عنفوان” لعمر أبو ريشة. في استعادته لتلك الحقبة الذهبية الأولى من تاريخ فيروز، يروي أحمد عسّة: “كانت فيروز آنذاك صوتا من غير صورة. كانت تتهيب الظهور أمام الناس، حتى في غرفة مقفلة، وترتجف كورقة عريش في مهب الريح، ولأنّ موجة الشباب في سوريا قد أنست لصوتها، وأحبّته، فقد قمنا بمحاولة لإظهارها على المسرح للمرة الأولى”. حدث ذلك على مسرح نادي الضباط، في حفلة لمجموعة طالبات دوحة الأدب تخصّصت في تبنّي رقصة السماح. “في هذا اللجو المدرسي”، ظهرت فيروز، “الفتاة الخجول، والواجمة، المتردّدة” وهي محاطة بمجموعة من بنات العائلات، “لا وحيدة وسط الأضواء”، وغنّت وهي ترتدي التنورة والبلوزة.
عشقت دمشق هذه “الفتاة الخجول الواجمة”، وعُرف شبابها باسم “الفيروزيين”. كتبت مجلة “الصياد” في آذار 1953: “يبدو ان حزب الفيروزيين بدأ يتوسع ويكبر إلى درجة أنه سينافس أكبر الأحزاب السياسية في هذا البلد. فما كادت هذه المجلة تشير إلى أن أكثر الشبان السوريين بدأوا يحملون لقب الفيروزيين نسبة لإعجابهم بالمطربة الجميلة الصوت والكثيرة الحياء والخجل الآنسة فيروز، حتى أخذ الكثيرون من الشبان اللبنانيين والفتيات والسيدات يكتبون إلينا مؤيدين هذا الحزب ومعلنين إعجابهم به وانضمامهم إليه، لأن إعجابهم بفيروز لا يقل بحال من الأحوال عن إعجاب إخوانهم السوريين. ولعلّ من أطرف الاقتراحات التي قدمها لنا الاستاذ نجيب حنكش هو ان يدخل صوت المطربة فيروز ضمن الاتفاق الاقتصادي بين لبنان وسوريا لأنه ليس من العدل ان يذكر في ملاحق الاتفاق ان لبنان يصدّر إلى سوريا كميات من الليمون الحامض والأرضي شوكي والعرق الزحلاوي، ولا يذكر صوت فيروز ضمن المواد التي يصدرها إلى سوريا”.
ختمت “الصياد” هذا الحديث: “بقي أن نقول إنه إذا كان حزب المطربة فيروز بدأ يكبر ويتضخم، فإن لذلك سببين: أولهما أن صوت هذه المطربة عميق العذوبة موقظ للآلام النائمة في القلب والنفس، والثاني أن اللبنانيين كرهوا الأحزاب السياسية القائمة على المنفعة الخاصة وإيقاظ الفتن النائمة وأصبحوا يبحثون بالسراج والفتيلة عن أحزاب مثل حزب فيروز توفر لهم الطمأنينة والبهجة”.

من الإذاعة إلى المعرض الدولي

توطّدت علاقة دمشق بفيروز، وعلت الأصوات المطالبة بظهورها على مسرح “معرض دمشق الدولي”. بعد طول انتظار، استعدّت العاصمة السورية لاستقبال الحفل المنتظر في أيلول 1958، في مرحلة توتّرت فيها العلاقات بين سوريا ولبنان إثر استجابة الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور لنداء الرئيس كميل شمعون، وشنّه “عملية الخفاش الأزرق” في منتصف تموز. رافقت “الصياد” هذا الحدث، وقالت في تعليق أوّل في الرابع من أيلول: “بطاقات فيروز التي تبيعها إدارة معرض دمشق الدولي للحفلة أو الليلة اللبنانية التي ستحييها فيروز ليل 23 أيلول الحالي في دمشق، نفدت كلها. بيعت البطاقة بخمس وعشرين ليرة لبنانية، ومع هذا نفدت كلها منذ الآن. وقد أثبت هذا أن الشوق لسماع فيروز شخصياً هو أمر عجيب. وأثبت أنّ شعبية فيروز لا تضاهيها شعبية مطربة أخرى. كما أثبت أنّ السياسة لن تقتل حبّ الفيروزيين في دمشق لفيروز لبنان والشرق العربي”. بعد أسبوعين، عادت المجلة وأشارت إلى إمكان إلغاء الحفل بسبب المحنة التي تمرّ بها فيروز إثر مرض ابنها هلي، وذكّرت بأن النجمة اللبنانية أرادت احياء هذا الحفل لأسباب، “منها إعادة الصلة الروحية بين لبنان وسوريا بعد ان فرقتها السياسة”، و”ما كاد خبر قبول فيروز الاشتراك بمعرض دمشق الدولي حتى ضج الشرق أجمع بالبشرى السعيدة”. وأضافت: “قامت القيامة ولم تقعد بعد. دمشق كلها تريد أن ترى فيروز تغنّي حتى لو أدّى ذلك إلى خرق حرمة معرض دمشق الدولي. سيهبّون جميعا ليقولوا لها إنهم أنفسهم طفلها وعشّاقها”.
أُلغي الحفل الموعود، وتأجّل لقاء فيروز بجمهورها الدمشقي سنة. نجحت “الليلة اللبنانية” الأولى نجاحاً عظيماً، وأقام بعدها الزعيم فخري البارودي على شرف فيروز والأخوين حفلة ساهرة في نادي الضباط “حضرها لفيف من رجال البلاد وسادته”. في تلك الحفلة، توجّه فيروز وعاصي “بكلمة شكر صادقة لأهالي دمشق”، ونوّها بالجهد الذي بذله مدير المعرض فيصل الدالاتي لإنجاح الحفل. تكرّر اللقاء في السنوات التالية، وبات لدمشق موعد سنوي مع فيروز في أيلول. عام 1960، افتتحت فيروز العرض بقصيدة “سائليني” من شعر سعيد عقل. وفي عام 1961، غنّت من شعر الأخطل: “يا ربى لا تتركي ورداً ولا تبقي أقاحا/ مشت الشام إلى لبنان شوقاً والتياحا”، كما غنّت “خدني ازرعني بأرض لبنان”، وختمت الحفل بمغناة فلسطين الكبرى “راجعون”. أصدرت شركة “صوت الشرق” مختارات من هذه الحفلة على اسطوانة من الحجم الكبير حمل غلافها الخلفي نصاً يقول “بين فيروز ودمشق وشائج أجمل ما يشدّ حنجرة ذهبية الى عاصمة فن. من دمشق طارت الكلمة التي باتت على كل شفة: الناس في هذا العصر فيروزيون أو لا فيروزيون. وكانت سفيرتنا الى النجوم وفية للحب الذي خصّها به شعب دمشق، فإذا الليالي اللبنانية في المعرض الخالد، تلك التي يحج إليها الناس من كل سوريا ليستمتعوا بأنغام ذات الصوت الحريري، صفحات جديدة من ألف ليلة وليلة. دمشق وفيروز إسمان لا ينفصلان”.
في 1962، انتقلت مسرحية “جسر القمر” من بعلبك إلى دمشق، وافتتحت بقصيدة سعيد عقل: “قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب/ شآم ما المجد أنت المجد لم يغب”. في 1963، قُدّمت “الليل والقنديل” في دمشق قبل عرضها في لبنان، وافتتحت بقصيدة أخرى نظمها سعيد عقل خصيصا لهذه المناسبة: “شام يا ذا السيف لم يغب/ يا كلام المجد في الكتب/ قبلك التاريخ في ظلمة/ بعدك استولى على الشهب”. في عام 1964، انتقلت “بياع الخواتم” من الأرز إلى الشام، وافتتحت يقصيدة جديدة لسعيد عقل: “نسمت من صوب سوريا الجنوب”. عام 1965، غابت فيروز عن دمشق بسبب حملها، وعادت إليها في العام التالي حيث غنّت لأهلها من شعر الأخوين رحباني: “قد غبت عنهم وما لي في الغياب يد/ أنا الجناح الذي يلهو به السفر”. ضمّ البرنامج “أجراس العودة” التي كتبها سعيد عقل لفلسطين خصيصا، وكان الختام “دبكة لبنان بالملقى دبكة شيل السواعد”. قدّمت فيروز حفلاتها في جو محتقن بعد تعرض الحكم السوري لمحاولة انقلاب، لكنها حصدت نجاحا كبيرا أدهش الصحافة. في الرابع عشر من أيلول، نشرت “لسان الحال” صورة لفيروز على صفحتها الأولى، وكان التعليق المرافق: “تمتعت دمشق، بالرغم من المحنة القاسية التي مرت بها، بصوت فيروز الذي انطلق من معرض دمشق يشدو وينتزع تصفيق الحاضرين وحماستهم المنقطعة النظير”. في أعلى الصفحة، جاء العنوان الرئيسي: “حافظ أسد أحبط محاولة الانقلاب بقصف السويداء بالصواريخ”، وتلاه بالخط الأحمر العريض: “تجريد الحرس الأحمر من السلاح”.

لبنان الثاني

توطّدت العلاقة بين فيروز والمعرض الدمشقي في السنوات التالية، وتضاعف عدد الحفلات المقرّرة. عام 1967، انتقلت “هالة والملك” إلى دمشق بعد بيروت والأرز، وافتتحت بقصيدة “مرّ بي” التي جمعت بين شعر سعيد عقل وألحان محمد عبد الوهاب. في العام التالي، استقبلت دمشق فيروز في مسرحية “الشخص”، وجاء ذلك في فترة توترت فيها العلاقات بشكل كبير بين سوريا ولبنان. وضعت سوريا “عوائق اقتصادية” شلّت حركة الترانزيت بين البلدين، وطالبت السياسيين اللبنانيين “بالتشدد في ملاحقة اللاجئين السياسيين وإنذارهم بعدم اتخاذ الأرض اللبنانية كمنطلق للهجوم والتهجم على الحكم السوري القائم، وعدم القيام بأعمال تؤدي إلى الضرر بمصالح لبنان وعلاقته مع الحكام السوريين”، كما كتبت مجلة “الديار” تحت عنوان “فيروز تعيد العلاقات مع السوريين”. تجاهلت فيروز “أصوات القطيعة والمقاطعة، فغنّت وأطربت كعادتها في معرض دمشق الدولي وفرشت المحبة على طريق العلاقات بين البلدين مما دعا الحكومة السورية إلى الاحتفاء بفيروز والأخوين رحباني ومنحهم أوسمة الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى، وقد قام بتقليد الأوسمة الرفيعة وزير الاقتصاد السوري السيد زهير الخاني في حفلة حضرها وزير الخارجية الدكتور ابراهيم ماخوس وعدد كبير من الشخصيات الرسمية”.
على الصفحة المقابلة، نشرت “الديار” تعليقا لسعيد عقل عنوانه :”فيروز تقطع القطيعة بين لبنان وسوريا”، وفيه: “تحضر اسبوع فيروز في دمشق، حيث تبلغ حماسة الناس لها حد التولّه أو العبادة، أو تكون تجهل الوشائح الحقيقية التي تشد سوريا إلى لبنان”. “نتوقف عن وصف الليلة الأخيرة التي حضرناها شخصياً لنقول غير منبئين أو راجمين بالغيب: يستحيل أن لا يحصل في هذين اليومين انقلاب على واقع القطيعة الاقتصادية البغيضة. لا كذبنا الله. إلى هذا الاستنتاج انتهى بنا ما شهدناه من لعب معبودة بقلوب عابدين. ويكون هؤلاء أيضاً كل رجال الحكم في دمشق. تعرف دولتنا؟ إن هي برعت، عند تجهم الجو بين لبنان ولبناننا الثاني (وهذا اسم سوريا على شق قلمنا) في استغلال من يعرفون، أية كانت الظروف، أن يتفوّهوا بكلمة كره، وفي طليعتهم فيروز، رأت العجب. والعجب هو أن سوريا تعجز عن الإساءة إلى لبنان، لا بسبب أيما شيء إلا أنها، في قعر قعر قلبها، تعتبر نفسها جزءاً من لبنان”. بعد هذا الكلام، استرسل سعيد عقل في وصف الحفلات الدمشقية، وقال في الختام: “فيروز، الحبيبة الحلوة الحلوة، شكراً باسم لبنان”.
أعادت فيروز العلاقات مع السوريين في الخمسينات، وأعادتها من جديد في الستينات، فوطّدتها وثبّتتها. تحمل مرحلة السبعينات سلسلة أخرى من المفاجآت المنسية، وتحتاج هذه المفاجآت إلى وقفة أخرى مقبلة.

– عن النهار اللبنانية

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *