‘أبناءُ الريح’ لليلى الاطرش: السرد المؤطر!


د.إبراهيم خليل

 
في حديثنا المُقتضب عن هذه الرواية الجيدة للكاتبة ليلى الأطرش ننطلق من قاعدة لا نظن كثيرين يؤيدوننا، أو، على الأقل، يشاطروننا فيها الرأي ، وهي أن الموضوع، أو الفكرة، التي تدور حولها الرواية ليست هي المعيار الذي يميز بين رواية جيدة وأخرى غير جيدة.
فالموضوعاتُ، والأفكار، مطروحة في الطريق، ويستطيع الكاتب أنْ يأخذ منها ما يريد، ويترك ما لا يريد ، فالمعيار الذي يميز الرواية عن اللارواية هو خطابها الأدبي، والفني، الذي يُحوّلُ الوقائع فيها إلى شكل قابل للتأمل، والتحليل النقدي. وموضوع هذه الرواية يحيلنا إلى فتات الواقع اليومي لمجموعة صغيرة من الناس، قادتها الأقدار لتنشأ نشأةً شاذة في ملاجئ، أو في دور رعاية للأيتام، أو اللقطاء، أو المشردين، المنبوذين، ممن لا أباء لهم، ولا أمّهات، ولا أسَر.
وهؤلاء الأشخاص تعصف بهم الأيام على إيقاع الزمن، فيتفرقون أيدي سبأ. منهم من ابتسم ، أو عبس، في وجهه قمر الحظ القلَّب، ومن هؤلاء سفيان الذي اهتدى أخيرا لمكان عمه (تيسير) في دبي، فألحقه هذا بأسرته، واعتنى به، ودرَّسه حتى تخرج في كلية الطب، وكأنه بهذا يكفّر عن جريمة نكراء كانت له فيها اليد الطولى، وهي مصرع أمه آمنة، ووفاة والده حسن عبد الجبار في زمن مُبكر، وفاةً غامضة لا تفسير لها إلا أن يكون قد قضى حزنا، وكمدا، على زوجته التي كانت فيما يؤكدون- وفية له، ومخلصة في حبّها، ورائعة الجمال جدًا.
وبعد ثلاثين عامًا من بدء الحكاية يستأنف سفيان استعادة الحوادث من جديد، عن طريق التسلسل، فيتحرى البحث عن الشخوص الذين ألفوا في يوم من الأيام أسرة تضم ستة من الإخوة، وخمسًا من الأخوات.
تبدأ كرة الصوف بالانفراط، وتبدأ الحوادث بالتتابع، ولكنْ في شيء من التفصيل الذي يلقي الأضواء على مزيد من الأسرار، والخفايا. فعم سفيان في الحقيقة هو ابن عم أبيه- الذي يظهر الكثير من حسن النية، هو السبب الذي دعا والده(حسن) لقتل أمه(آمنة) فقد كان تيسير يحسده عليها، ويرى أنه هو أولى بمعاشرة تلك المرأة من حسن الذي لا يستحقها في رأيه، وقد صدته مرارًا حين حاول مراودتها عن نفسها، غير أنه دبر مكيدة مع ابن عمها الذي استهوته تلك المكيدة، فتسلل إلى بيت حسن في غيابه، أما تيسير فراح يبلغ في الوقت نفسه- حسن بوجود رجل غريب في دارهِ، وهذا ما دعاهُ لارتكاب جريمة قتل فيها زوجته، فيما كان سفيانُ، ابن السنوات الثلاث، يرنو في ما يجري دون وعي.
ولا تقتصر الحكاية – بطبيعة الحال – على ما سبق ذكره، فثمة حكايات أخرى متداخلة كحكاية يحيى ووالديه، وفراس، وحمزة، ونادرة، وآخرين.. وتظل هذه الحكايات بمنزلة الفروع التي تنبت على جذع الحكاية الرئيسة ‘ حكاية سفيان ‘ فالسرد في هذه الرواية من النوع الذي تستوعب فيه الحكاية الرئيسة حكاياتٍ أصغرَ منها، كالإطار الذي يضم مجموعة من الصور، لا صورة واحدة.
ونتوقّع من هذا التكثيف، الذي نسوق فيه أبرز مفاصل الحكاية، التعبير عن أنّ الموضوع فيها موضوع يتصل بشريحة من المنبوذين والمهمّشين من الناس، وهذا شيء قل أن يلتفت إليه الروائيون المشغولون على الدوام بالهواجس الكبرى في السياسة، ومسائل الميتافيزيقيا المعقدة، ومظاهر الميز بين الأنوثة والذكورة، والصراع الطبقي، وقضايا الأسرة من زواج وحب وطلاق إلخ.. ومع ذلك فإنَّ جدة هذا الموضوع، وطرافته، وأهميتهُ، ليست هي التي تجعل من ‘ أبناء الريح ‘ رواية جيّدة، فنحن أمام حكاية سفيان، وحكايات أخرى أدنى أهمية، صيغت في خطاب فني يعتمد تقنيات سردية تضفي على هاتيك الحكايات الجاذبية، والتشويق، وتجعل من هلاميّة الوقائع بنية ذات شكل قابل للتأمل، والدراسة، والوصف الاستاطيقي. فالرواية تتوسَّلُ، من بدايتها، بالمنولوج الداخلي، وهو نمط سرديّ يقوم على منظور يحتلّ فيه السارد المشارك موْضع البؤرة، فهو الراوي، وهو البطل، وهو أحد الشخوص، وذلك شيءٌ يكاد يطّرد في فصول الرواية طرًا. ولهذا تبعاتٌ بالطبع، أولها: هيمنة السرد بضمير المتكلم، وثانيها اختصار المسافة بين الرواي والوقائع التي تُروى. وهذا المثال يفصح عن ذلك ‘ تطاردني صورة ملجأ تربَّيْت فيه .. وإخوة لي .. كانوا.. اتصالٌ من لا مكان زلزل سبات الماضي. ثلاثين من السنوات.. ‘ (ص8 ) فزمن التلفظ مصاحبٌ لزمن الوقوع.
مثلُ هذا النمط يتكرر في الفصل الذي تحيل فيه الكاتبة الدوْرَ لتيسير عم سفيان، (ص71) ليأخذ هذا مَوْقِعَهُ مستعينا بالمنولوج الداخلي، للكشف عن العالم الخفي لهذا العمّ، الذي يُظهرُ خلافَ ما يُبْطن. فتنفرط على يديه كرة الصوف مرة أخرى، مسترجعًا الحوادث من منظور مختلف، فما أشير إليه في أول الرواية باقتضاب، أو بإيماءة، يجري تفصيله ها هنا على يدي فاعله الحقيقي. (انظر= ص75،ص79 ،ص80) وما جرى التلميح إليه من مخطط الكيد الذي دبره تيسير بليلٍ للتفريق بين آمنة وحسن، نجده مفصلا في شيء من الإسْهاب ( ص 84- 86) وأما ما ذُكرَ عن ترك سفيان في الملجأ، وسفر عمه إلى دبي، تلميحًا، فقد ذكر ها هنا بالتفصيل، وكأنَّ السابق لا يعدو أنْ يكون تنبؤًا بما سيذكر في اللاحق.(ص96) ويجري فرط كرة الصوف مرة أخرى، فإذا بالحوادث تبدأ من جديد، وتتوالى، إلى أن يصبح تيسير ثريًا، وأما حكايته مع جد سفيان – والد آمنة – فحكاية لم يحن ذكرها في مستهل الحكاية، مع أن طبيعة الأمور تقتضي ذلك، لكن السارد المشارك، وهو هنا تيسير، لا يذكرها إلا بعد أن روى لنا حكايته مع دار رعاية الأيتام، وبعد أنْ التحق تيسير بأسرة عمّه في دبي، فتذكَّرَ موقف الشيخ الذي سدّ في وجهه، ووجه زوجته سعاد، بابَ داره، قائلا: ‘ إنه لا يريد ما يذكره بآل عبد الجبار الذين يصفهم بالغلظة، فلا مكان في بيته، ولا في صدره، لعائلة لطختْ سمعته بالعار ‘.(ص101)
ومن حرص الراوي المشارك – هنا – على تنقيح ما يرويه، يلجأ ، من حين لآخر ، لتأكيد ما يذكره. فبعد أن روى ما جرى له في دبيّ مفصّلا، وتنقله من ثراء فاحش إلى ثراء باذخ، عادَ، ولخص لنا ذلك بما يشبه التذكيرَ، أوْ الخلاصة، موظفًا بذلك تقنيَة التخْزين والاسْترجاع: ‘ بدأتْ ثروتي في دبيّ من مرآبٍ صغير لفحْص السيارات. وإصلاحها، وتصيد مزاد الحاويات .. ثم بيْع قطع غيار السيارات .. فمحطة وقود. وأخيرًا سوبر ماركت.. فجرى المال.. وانقلبَ الحال. ‘ ص 102 فهذا شيء كان القارئ قد عرفه من الراوي نفسه في تفاصيل كثيرة.
ويتكرّر الشي نفسه في الفصل الرابع، إذ يستأنف سفيانُ دوْره في سرد الحوادث، وهذا الدوْر يختلفُ عن دوْره السابق، فهو يتحرك في اتجاهيم متقابلين، أحدُهما يدفع به إلى الأمام في مسار خطّي يقترب بالحكاية من الخاتمة، أو الخلاصَة، وثانيهما عكسيٌّ يعود به إلى مبتدأ الوقائع. فكلما وقعتْ عيناهُ على شيء جديد في بيت عمه، أو في المدرسة، أو في الكلية، أو فضاء المدينة، أو في مطعَم ممّا اصطحبه إليه أبناءُ عمّه للمرة الأولى، فاجأته ذكرى الملجأ، أو دارالرعاية، وتذكر كلمات مثل: أبناء الرعاية .. أبناء الحرام.. أبناء الشوارع.. أبناء الريح .. وهذه الذكريات الغامضة، والمشوشة، والكوابيس التي تعتادهُ، تختلط في أكثر الأحيان بهذا البوح المباشر اختلاطا يوحي بالإيقاع المتسارع للحوادث، مع هلوسات عمهِ تيسير، وما توحي به من أسْرار يخفيها عن أبويه، وعن سعاد وطريقتها في الحديث عنهما، والتحاقه بالجامعة، ودراسته، وتخرُّجه، وعودته إلى دبي، وزواجه، وانتظاره طفلته الأولى، كل ذلك يحدث، وُيروى في أقل مما يُتوقع، ممّا يعني أن الرواية بدأت بالاقتراب من نهايتها التي تظهر في أفقها نادرة، وهي التي سبق ذكرُها في الصفحات الأولى، عندما وصف الأسرة المؤلفة من ستة إخوة، وخمس أخوات، إحداهن اسمها نادرة التي كانت تكره تناول الفول في وجبة الفطور.
إذًا تكرارهُ لذكرها مرارًا، تارة على سبيل الإشارة، وطورًا على سبيل التفصيل، والاطراد، الذي لا يخلو من التحليل، والتشخيص، يعني- فيما يعنيه – توظيف الكاتبة لتقنية التواتر، والمُلخَّص، والمفارقة السرديّة، التي تتبدَّى في عزوفها عن السرد الآني لآخر سابق. وعلى أيِّ حال لجأت الكاتبَةُ – ها هنا – لوسيط يغني عن الراوي المباشر، وهو الخواطر، والقصص، التي قدمتها نادرة لسفيان بعد أنْ التقيا كيْ يطلع عليها، ومن هذه القصص واحدة بعنوان ‘ ياسمين ‘. ومن يقرأ هذه الحكاية، ويوازن بينها وبين ما ذكره الراوي سفيان عن نادرة في مواقع متفرقة من الرواية، يستنتج أنّ ياسمين هي نادرة. فالمنولوج في القصة تعبيرٌ غيرُ مباشرة عما ترويه نادرة بضمير المتكلم، لا الغائب، ولا المخاطب.
فالمنظور السردي، وتعدُّد الأصوات، طريقتان اتبعتهما المؤلفة ليلى الأطرش في هذه الرواية بإتقان، علاوةً على اعتمادِها على السرد المتشظي الذي لا يخفي تلاعب الكاتبة بالزمن، وتحريك الخيوط المتحكّمة بالحوادث، وفقا لبنيةٍ تقدِّمُ ما منْ حقّه التأخير، كعودة سفيان إلى دار رعاية الأيتام، وتأخير ما من حقه التقديم، كتأخير التفاصيل المتعلّقة بمصرع آمنة، أو موْقف جدّه، أو حكاية عمّه مع الاشخاص الذين كلفهم بزيارة دور الرعاية. وإلى ذلك حرصتْ المؤلفة على مراعاة مسألة التبئير، في السرد، فقد أحاطتْ سفيانَ بالكثير من الاهتمام، فاستأثر بنصيب الأسد من المحكيّ الروائي، فحيثما نظرنا في الرواية اكتشفنا ذكرًا لهُ، مباشرًا أو غير مباشر، فهو بالنسبة للشخوص كالشجرة التي تظلل الغابة. وقد يتراءى للقارئ أنَّ تيسيرًا يحتل موقعا تبئيريًا في الفصل الثالث، أو أنَّ يحيى ينافسُه على تلك المنزلة، غير أن من ينظر بين السطور يكتشف بيُسْر أنّ هذا التبئير ثانوي، و لا يرادُ منه سوى إبراز سفيان، وعالمه، الظاهر منه، والخفي.
ومن الملاحظات التي لا تفوتُ القارئ، في هذه الرواية، تلك الحرفيّة الجليّة التي تتَمثَّلُ فيما سعتْ إليه المؤلفة منْ جمَع للمعلومات، واستقصاءِ للبيانات التي تعْصمها من الوقوع في الخطأ، وهي تروي حوادث وقعتْ في فضاء سرديّ غير مألوف بالنسبة لاهتمامات الروائيّين. ويتضح ذلك في أكثر منْ موْقف. ولا شك في أنّ لغة الكتابة، ولغة الكلام، في هذه الرواية مستويان يأتلفان في النصّ ائتلاف مستوياتِ الشخوص. وقد أدّى هذا الائتلاف لظهور لغيّاتٍ كلّ منها تشير إلى مستوىً مُباين، فلغة الكلام لدى يَحيى، الذي يتمتع بكاريزما القيادة، لغة فاحشة، وسوقية، ومبتذلة، تبهرُ الصغارَ، وهم يحاولون أنْ يكوِّنوا عصابَة من الأشرار، ولغة نادرة النقيّة تباينُ بمفرداتها وصوتياتها كلام الأم العابثة التي لا تتورّع عن شيء. والكلام الذي يجري على ألسنة مشرفاتِ دور الأيتام ينبئ تارة عن مستوى أخلاقي رصين، وطورًا عن مستوى من الناس لا يتورّعون عن الكذب، والسرقة، والغش، مع أنهم مُربّون. وباختصارٍ شديد تجمَعُ هذه الرواية مستوياتٍ من الأداء اللغويّ تَتَناسبُ مع اعتمادِها تعدُّد الأصوات، والمونولوج، والحوار، وتنضيدِ الحكايات في إطارٍ جامِع يصحّ أن يوصف بالسرْدِ المُؤطَّر.
يُذكر أن للكاتبة ستّ روايات، هي: وتشرق غربًا 1988 وامرأة للفصول الخمسة 1991 وليلتان وظل امرأة 1998 وصهيل المسافات 1999 ومرافئ الوهم 2005 ورغبات ذلك الخريف 2009

 

– عن القدس العربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *